مصطفى الفقي
لا أظن أن هناك من يجادل في أن معظم الأنظمة السياسية في العالم العربي تعاني حال التخلف السياسي الذي فرضته ظروف تاريخية و «إحداثيات جغرافية» على المنطقة حتى أصبحت الإرادة السياسية معطلة أمام الأزمات وجامدة في مواقف كثيرة، لذلك أصبح من المتعين علينا أن نتحدث بلغة فكرية جديدة وعقل مختلف، إذ إن الترهل والركود والضبابية هي آفات تعانيها المنطقة العربية على امتداد العقود الأخيرة، لذلك يجب أن نحاول علاج المرض وليس مجرد إيقاف العرض. إن ذلك يدعونا إلى التدقيق في أسلوب اتخاذ القرار السياسي وعملية صنعه في الدول العربية المختلفة وسوف نكتشف دائماً أننا أمام وضع ملتبس وظروف تبدو أحياناً معقدة لذلك فإننا نطرح الأفكار التالية:
أولاً: إن الميراث الثقيل الذي يحمله العرب وركام التقاليد التي آلت إليهم عبر القرون تركت لديهم إحساساً عميقاً يشدهم إلى الماضي ويدفعهم إلى التغني بالأمجاد وترديد الأبيات الشعرية من (ديوان الحماسة) وقد لا يعنيهم واقع العصر ولا الرحلة إلى المستقبل فأصبحوا أسرى تاريخهم قبل أن يكونوا ناهضين في حاضرهم عاملين من أجل مستقبلهم وقد جاء عليهم حين من الدهر جعلهم يعيشون خارج دائرة العصر حتى نعتهم البعض، ولو ظلماً، بأنهم ظاهرة صوتية، على رغم بعض الومضات النهضوية على الساحة القومية ولكنها على ما يبدو لم تكن كافية لتـأكيد النظرة الصحيحة إلى روح الحداثة والخروج من شرنقة الماضي، ولعلنا نلاحظ أن الشعوب ذات الإرث التاريخي الثقيل والبناء الحضاري العتيق تكون أحياناً عصية على التقدم غير قادرة على استيعاب المشاهد الحقيقية التي تدور حولها بل إنني أزعم أن الدول ذات التاريخ القصير تكون أحياناً أكثر استجابة للتغيير ولا تبدو متمردة على التحول والتطور مثل تلك التي كانت تملك تاريخاً عريضاً وإرثاً قديماً. من هنا تبدو محنة بعض الدول العربية خصوصاً تلك التي قامت على أنقاض حضارات كبرى وثقافات ضاربة في جذور التاريخ البعيد.
ثانياً: لقد وقع العرب فريسة الصراعات الداخلية والضغوط الخارجية والتدخلات الأجنبية فكانت النتيجة أن دب الشقاق بينها وعرفت نمطاً من أنماط التباين والاختلاف الذي تحول إلى نوع من المنافسة المحمومة أحياناً أو غياب الثقة أحياناً أخرى، وتحول الأمر إلى نوع من الغيرة المكتومة والصدام الذي لا مبرر له ولذلك فالأمر يقتضي إعادة النظر في طبيعة العلاقات البينية، سياسياً واقتصادياً، بين المجتمعات العربية بكل ما لها وما عليها وذلك هو السبيل الوحيد للخروج من المأزق ومواجهة الحقائق بشجاعة لا تفتقر إلى الموضوعية ولا تبتعد من الحس القومي الذي يجب أن يسيطر على المواقف والأشخاص، خصوصاً أنه يتردد في كثير من الكتابات المعاصرة أن العرب من فرط ما لديهم من أسباب التوحد والاندماج فإنهم لا يتحدون بل إن الكثير من الأجانب يندهشون عندما يعلمون أن النكتة المصرية يضحك لها العراقي والمغربي واليمني وغيرهم بالدرجة نفسها وأن الكتاب اللبناني يصل إلى يد كل عربي حين صدوره فلا توجد حواجز لغوية بين شعوب المنطقة وأقطارها، ولقد دهشت شخصياً وأنا أرى نواب البرلمان الأوروبي يتحدثون من خلال كبائن الترجمة بسبب وجود أكثر من عشر قوميات وما يزيد على ذلك من لغات ولكنهم اتحدوا بمنطق الضرورة والإيمان بالمصلحة المشتركة بينما نحن العرب نبدو أبعد ما يكون عن ذلك، وهذا أمر يثير التساؤل ويدعو إلى الدهشة دائماً.
ثالثاً: دعونا نعترف أن التعليم العربي هو الأب الشرعي لمعظم مشكلات الأمة لأنه لم يرتفع بها إلى مصاف تجعلها قادرة على الحوار البناء والتفكير الموضوعي والأخذ بفقه الأولويات وفقاً لمقتضى الحال، بل إن الأمر يبدو غير ذلك، فنظام التعليم متراجع بل ومتهاوٍ في كثير من الدول العربية بل إنني أعيد تخلف تلك الدول إلى ضعف المنظومة التعليمية وغياب القدرة على توظيف التعليم في خدمة المشروع النهضوي على المستوى القومي أو المحلي، فالتعليم هو مفتاح العصر وبوابة المستقبل وتتحدد به قيمة الدول ومكانة الأمم، وعندما يفقد النظام التعليمي مكانته ويتراجع تأثيره فنحن نكون أمام بداية التدهور وانعدام القدرة على التحرك نحو غد أفضل، والتعليم هو الذي يحدد طبيعة حجم البحث العلمي ويؤثر في معدلات التشغيل ويمثل المادة الأساسية التي تستقي منها الثقافة ويستمد منها الفكر وتعتمد عليها الشعوب في مشوارها الطويل، ونحن العرب نعاني عملية الانفصام بين ما نقول وما نعمل لأننا بارعون في توصيف أمراضنا ولكننا غير جادين في علاجها، والتعليم هو المدخل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة والدخول في ساحة العصر بكل ما فيه من تحديات وما يكتنفه من مشكلات وما يعتوره من قلاقل واضطرابات.
رابعاً: إذا كنا قد تحدثنا عن أزمة التعليم العربي فإننا نتبعها بحديث آخر عن محنة الثقافة العربية، إذ إن اختلاط الثقافات المعاصرة في محيط الفضاء العربي قد حرم المنطقة ودولها المختلفة من تكوين ملامح الهوية القومية في شكل واضح فلم نتمكن من استبقاء تلك الهوية وتنميتها وقبلنا طواعية أن نمضي وراء الثقافة الغربية فلا نحن حصلنا على أفضل ما فيها ولا احتفظنا بأفضل ما لدينا فكانت النتيجة هي ثقافة ممسوخة لا تعبر عن الواقع الذي ننشده ولا المستقبل الذي نرنو إليه، ويكفي أن نلقي نظرة على الأدب العربي المعاصر لكي نتأكد أننا قمنا بامتصاص جزء كبير من حضارات الغرب وثقافاته ولم نتمكن من استلهام الإيجابيات ولفظ السلبيات، فكانت النتيجة هي قبولنا بالفنون الركيكة والدراسات السطحية من دون أن ندرك أن الفنون والعلوم والآداب هي العناصر المكملة للعملية التعليمية لا ينهض العرب من دونها ولا يجدون لأنفسهم بديلاً عنها. إن الثقافة هي قيم وتقاليد وسلوك بشري يقوم على عقليات وطموحات هي التي تحدد المسار وتنير الطريق.
خامساً: إن العرب يملكون، كما أسلفنا، مقومات هائلة تدعوهم إلى التوحد بدلاً من التشرذم والتقارب والتكامل بدلاً من الفرقة والانقسام وذلك وقوفاً على أرضية وطنية لا جدال حولها، ويكفي أن عامل اللغة هو العامل الأساس في النظرية القومية الحديثة وأنه يجب التركيز على ذلك العامل باعتباره العامل الحاكم عند تحديد الهوية بدلاً من العوامل الأخرى التي تبدو مرتبطة بمجتمعات لم تعرف الانفتاح ولا تدرك معنى الحداثة.
سادساً: شهد العالم العربي في العقود الأخيرة اشتباكاً حاداً بين الدين والسياسة في جانب (جماعة الإخوان المسلمين نموذجاً) وبين الدين والمجتمع (الجماعات السلفية نموذجاً) وقد أدى هذا الاختلاط إلى كثير من المشكلات التي عانت منها دول عربية مختلفة، فالشريعة الغراء هي من الثوابت التي لا جدال فيها ولكن إعمال بعض النظريات الفقهية والاجتهادات الفردية لكي تطفو على السطح هو أمر كان من شأنه تعطيل المسيرة العصرية وتعويق تطور بعض دول المنطقة لأن الالتزام ببعض آراء الفقهاء التي قد لا تكون تعبيراً دقيقاً عن روح الدين الحنيف وتعاليمه قد سيطرت بشكل واضح على الحياة الفكرية والثقافية وشكلت إلى حد كبير سلوكيات الناس وطريقة تعاملهم ونظرتهم للحريات وحقوق الإنسان فضلاً عن زرع الشكوك تجاه الآخر وتجميد الثقة المتبادلة بين أصحاب الديانات وأتباع الطوائف حتى أصبح العنف لغة للحوار كما أصبح الإرهاب مأساة تطارد الحياة وتروج لثقافة الموت.
سابعاً: لعبت الجيوش العربية دوراً ملحوظاً في الحياة السياسية خصوصاً تلك الانقلابات التي بدأت متتالية في سورية مروراً بالثورة المصرية عام 1952 وصولاً إلى ما جرى في العراق وليبيا واليمن وغيرها، ولقد شهدنا الدور الذي لعبته الجيوش في تغيير مسار الدول والمضي بها في طرق جديدة قد تبتعد بها عن الديموقراطية حتى أصيب بعض العرب بـ «فوبيا» الثورات وتغطية مضمون الانقلاب العسكري بمفهوم الثورة الشعبية، ولقد جاءت أحداث الربيع العربي لكي تكون ناقوساً يدق بشدة لكي يلفت الأنظار إلى خطورة الانتفاضات المفاجئة وتأثيرها في مسيرة الأوطان، خصوصاً إذا افتقدت برنامجاً إصلاحياً تعتمد عليه، وأنا ممن يظنون أن العرب يحتاجون إلى برامج إصلاحية أكثر من حاجتهم إلى ما يطلقون عليه تعبير «ثورات» أو حتى «انقلابات» ما دام الأمر في النهاية محكوماً بالتعبير عن الإرادة الحرة للغالبية من أبناء شعب معين.
هذه بعض المحاور المتصلة بمفهوم الحداثة العربية وقدرة المؤسسات على إصلاح ذاتها وتطوير هياكلها والدخول في دائرة العصر دخولاً طبيعياً لا يقفز على عاملي الزمان والمكان، فالتطور التدريجي والإصلاح المدروس هما الطريق الأسلم للتغلب على التحديات ومواجهة العقبات وتحقيق النجاحات!