كما في كل استحقاق انتخابي في تركيا يتكرّر الخطاب المرتبط بالمخاوف الأمنية و”مشكلة البقاء”، كوسيلة ناجعة لتمكين القاعدة الانتخابية لكل من السلطة والمعارضة، إلى جانب الوعود الخاصة، بتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للسكان. وفي حين استمرت السلطة ممثّلة بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الذي شمّر عن سواعده متنقّلاً من ولاية إلى أخرى طلباً للأصوات لصالح مرشّحي حزب العدالة والتنمية لرئاسة البلدية، بالعزف على وتر التهديدات الوجودية ومشكلة البقاء وإعادة اعمار ما دمّره زلزال العام الماضي، ركّزت المعارضة على دوّامة التضخّم وانخفاض قيمة العملة المحلّية التي وضعت النسبة الأكبر من الشعب التركي عند خط الفقر. لكن، وعلى عكس الاستحقاقات الانتخابية للسنوات الماضية، تراجعت فاعلية ورقة اللاجئين السوريين، وتأثيرها على أولويات الناخبين الأتراك، لتحتل مراتب متأخّرة في جداول الوعود الانتخابية للأحزاب السياسية المتنافسة على البلديات الكبرى بشكل خاص.
إسطنبول أم المعاركاحتلّ ملف اللاجئين السوريين صدارة المشهد في انتخابات أيار (مايو) 2023 الرئاسية والتشريعية، وبات السوريون ورقة تتقاذفها الأحزاب السياسية في الساحات الانتخابية، لضمان اكبر عدد ممكن من الأصوات، في ظلّ بلوغ الرفض الشعبي لوجود هؤلاء مستويات غير مسبوقة، إلى درجة قيام حزب “النصر” اليميني المتطرّف ببناء حملته الانتخابية على ترحيل السوريين بشكل أساسي، وتوزيع صور تُظهر رئيسه وهو يقوم بقذف السوريين إلى خارج الحدود التركية مستخدماً المنجنيق. لكن المشهد يبدو مختلفاً اليوم، فلم تستحوذ الخطط الخاصة باللاجئين إلاّ على حيز بسيط في الخطابات والوعود الانتخابية لمرشّحي الأحزاب الرئيسية، على الرغم من إمكان تأثير هؤلاء على النتائج الانتخابية في بعض البلديات التي من المتوقّع أن تشهد منافسة حادّة بين السلطة والمعارضة الأم، قد تنتهي بحسم أحدهم لمقعد رئاستها بفارق بضعة آلاف الأصوات فقط. وبحسب أرقام وزارة الداخلية التركية، بلغ إجمالي عدد السوريين الحاصلين على الجنسية التركية حتى نهاية عام 2023، 238055، أي حوالى ربع مليون، حيث يشكّل البالغون أكثر من 65% من المجنّسين الذين يحق لهم وبموجب القوانين الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. وعلى الرغم من احتدام المنافسة في أكثر من 10 بلديات كبرى على مستوى البلاد، إلاّ أنّ المعركة الانتخابية للظفر ببلدية اسطنبول الكبرى تظلّ “أم المعارك” التي يركّز عليها كل من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض بنسبة أكبر. تشكّل اسطنبول ذات العدد والكثافة السكانية الأعلى تركياً خِمس القوة الاقتصادية للبلاد، وتُعتبر عاصمتها الاقتصادية والثقافية، ما يشرح إلى حدّ كبير إلحاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على استعادتها، بعدما خسرها في الانتخابات الماضية لصالح المعارضة، وهي البلدية التي مثّلت رئاسته لها نقطة انطلاقه إلى الحياة السياسية في عام 1994. وفي المقابل، يسعى حزب الشعب الجمهوري إلى الحفاظ على النصر الانتخابي الوحيد له منذ عقود، حينما نجح مرشّحه الكاريزماتي أكرم إمام أوغلو في انتزاعها من حكم حزب العدالة والتنمية المستمر لمدة ربع قرن. السوريون يدعمون مرشحي السلطة لرئاسة البلدياتغاب ملف اللاجئين عن الخطاب الانتخابي للحكومة التركية بشكل كامل حتى الساعة، لصالح التركيز على ملف إعادة الاعمار، بخاصة في ظل التوقّعات بحدوث زلزال قوي في اسطنبول خلال السنوات المقبلة.الخطاب جاء متوافقاً مع خيار أردوغان لترشيح مراد كوروم لرئاسة بلدية إسطنبول، وهو المتخصص في مجال “التحوّل الحضري”، الاختصاص الأهم في مواجهة الزلازل، وسبق أن انتُخب كوروم نائباً في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية في اسطنبول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وفي المقلب الآخر، لا يركّز مرشح الحزب الجمهوري أكرم إمام أوغلو على ملف اللاجئين، على الرغم من تصريحاته السابقة الرافضة للخطوات الحكومية حيال اللاجئين وانتقاده لسياسات الباب المفتوح التي اتّبعها الرئيس التركي في استقبال ملايين اللاجئين من دول آسيوية وإفريقية مختلفة، وعلى رأسهم السوريون. قد يكون سبب غياب ملف اللاجئين عن خطاب إمام أوغلو لقناعته بعدم تحقيقه نتيجة ملموسة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، حتّى أنّ حزب النصر الذي سار بحملته الانتخابية على أساس معاداة اللاجئين فشل في الحصول على أي مقعد في البرلمان. لذا يبدو أنّ إمام أوغلو يسعى إلى استخدام خطاب أوسع وأكثر جذباً، من خلال التركيز على أولوية إعادة العلمانية إلى تركيا، بالتوازي مع تطمين المحافظين دينياً، والأهم سيادة القانون، الذي بات يركّز عليه بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وهو الذي أشار إليه في لقائه مع وكالة “رويترز” قائلاً “إنّ انتخابات رئاسة البلدية ستوجّه رسالة إلى حكومة أردوغان بشأن رغبة الشعب التركي في الديموقراطية والعدالة وسيادة القانون”. يؤكّد الخبير القانوني السوري غزوان قرنفل في حديث إلى “النهار العربي” على تراجع ملف اللاجئين بالنسبة للخطابات الانتخابية للأحزاب التركية، ويعزو ذلك إلى أولوية الهمّ الاقتصادي والمعيشي للمواطنين الأتراك من جهة، ولكون التصويت في الانتخابات المحلّية محصوراً بالمكان المسجّل في قيد اللاجئ السوري المجنس. يقول قرنفل إنّ “العديد من السوريين المجنّسين القاطنين في اسطنبول مثلاً مسجّلون في قيود ولايات أخرى، وبالتالي فإنّهم ملزمون في التصويت في ولاية القيد لا الإقامة، ما يعني تشتت أصوات هؤلاء، التي هي قليلة في الأصل”. ويشير الحقوقي المقيم في مرسين، إلى أنّ “غياب الوعود الخاصة باللاجئين لم يقابله تجاهل أصواتهم، بل حاول العديد من المرشّحين في الولاية التي أقيم فيها، وعدد من الولايات الأخرى ذات التواجد السوري، التواصل مع السوريين للحصول على أصواتهم، كما الحال في عنتاب مثلاً”. لكن المحامي قرنفل، الناشط في قضايا اللاجئين، يؤكّد عدم وجود تنسيق وانسجام في الموقف السوري، “ما يفقدهم القدرة على التأثير والخروج بموقف موحّد. فلا يمكننا الحديث عن لوبي سوري مؤثر في الانتخابات سواءً التشريعية أو المحلّية”. تستضيف اسطنبول العدد الأكبر من اللاجئين تليها كل من عنتاب وأورفا وهاتاي (لواء اسكندرون) وأضنة ومرسين وبورصة وقونيا والعاصمة أنقرة على التوالي، حيث تشهد معظم هذه الولايات (عدا عنتاب وأورفا وقونيا) منافسة حادّة بين السلطة والمعارضة الأم. يقول اللاجئ السوري المقيم في حي “بشاك شيهير” في إسطنبول، فيصل ع. إنّ “السوريين الحاصلين على الجنسية التركية يميلون بشكل عام إلى انتخاب مرشّحي حزب العدالة والتنمية كما كان الحال بالنسبة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام الماضي، والأمر لا يقتصر على اسطنبول فقط، بل كل الولايات التي يتواجد فيها السوريون بكثافة”. وبحسب فيصل، الذي تحدّث مع “النهار العربي” شريطة عدم الكشف عن اسمه الكامل، فإنّ “غياب الاهتمام بالسوريين المجنسين في اسطنبول سببه قلّة عددهم بالنسبة للأتراك من سكّان المدينة، لذا فلن يكون لهم أي دور في تحديد رئيس بلديّتها”.
ويشرح الشاب السوري البالغ من العمر 28 عاماً، والمهاجر من الغوطة الشرقية، أنّ “اسطنبول فيها تقريباً 20 مليون تركي فقط، إضافة إلى المهاجرين من أصول بلغارية ومقدونية، ناهيك عن الأتراك الذين نقلوا قيودهم من ولايات أخرى. كما أنّ موضوع اللاجئين لا يمكن أن يوضع على جدول أعمال أي مرشح لانتخابات البلديات، ذلك لأنّ كل ولاية لها جدول أعمال مختلف عن الأخرى. إضافة إلى أنّ المنافسة في الانتخابات الرئاسية كانت محصورة بين السلطة والمعارضة، في حين أنّ الانتخابات البلدية تشهد منافسة من قِبل كل الأحزاب”. ويضيف: “على سبيل المثال، ورقة اقتراع بلدية اسطنبول يوجد فيها أكثر من 15 مرشحاً، لكن الأبرز هما مرشح العدالة والتنمية ومرشح الحزب الجمهوري”. حملة اليمين القومي الانتخابية تركّز على “معاداة اللاجئين”على عكس ما حصل في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2023، فشلت المعارضة في توحيد نفسها في الانتخابات البلدية، حيث أعلن حزب “الجيد” اليميني القومي بقيادة السياسية ميرال أكشينار، وهو ثالث أكبر أحزاب المعارضة التركية، خوض الانتخابات بمرشّحيه الخاصين. وخلافاً للسلطة والمعارضة الأم، ركّزت أكشينار في حملتها لدعم مرشّحيها على اللاجئين السوريين، معلنة أنّها لن تسمح “للمهاجرين واللاجئين بإنشاء مناطق عرقية أو قطاعات خاصة بهم، وأنّ من يتمّ الموافقة على بقائه في تركيا لا بدّ من تتريكه، ولن نسمح بإنشاء سوريا مصغّرة في أي حي أو مدينة من المدن التركية”. وهو خطاب مماثل إلى حدّ كبير إلى ما ذهب إليه رئيس حزب “النصر” اليميني القومي المتطرّف، الذي يتّخذ من “معاداة اللاجئين” شعاراً سياسياً. تكرار الخطاب المعادي للاجئين من قِبل اليمين القومي التركي يهدف بشكل أساسي إلى استقطاب الأصوات القومية، في ظلّ تسليمها باستحالة جذب الناخبين المحافظين والليبراليين واليساريين، الذين باتوا أكثر تخندقاً كل في الحزب الذي يمثّل توجّهاته، في ظلّ الاستقطاب السياسي المتصاعد في البلاد خلال العقدين الأخيرين. أدّى تدفّق اللاجئين والمهاجرين من البلدان المجاورة التي مزقتها الحرب إلى تركيا، التي باتت تضمّ أكثر من 6 ملايين لاجئ ومهاجر، إلى تحوّلها من دولة متجانسة نسبياً في السابق، حيث تتكون إلى حدّ كبير من الأتراك العرقيين وأقلية كردية كبيرة مقموعة، إلى بلد أكثر تنوعاً يضمّ ملايين العرب والأفغان. يركّز اليمين القومي التركي على هذا التحول الديموغرافي للبلاد، التي لطالما عُرفت بالقومية العرقية، ومن دون أن يكون لديها خبرة في استيعاب العناصر غير الناطقة بالتركية. ومع تزايد عددهم، أصبح اللاجئون أهم مرتكز سياسي لهذا التيار، وقد رفع الانهيار الاقتصادي، الذي اتسمّ بتضخم غير مسبوق ومعدل بطالة عالٍ جداً، إلى زيادة حدّة النقاش حول أزمة اللاجئين في البلاد، ما ساهم في زيادة التضليل والعنف ضدّ اللاجئين. في المقابل، يرى الخبير التركي المتخصّص في علم الاجتماع د.سرهاد اتاهان أنّ “المعارضة اليمينية تكرّر الخطأ نفسه الذي ارتكبته في الانتخابات الأخيرة، بالتركيز على اللاجئين وضرورة التخلّص منهم من دون طرح خارطة طريق منطقية لتحقيق هذا الهدف الذي قد يكون جاذباً لقسم كبير من الناخبين الأتراك”. ويضيف اتاهان: “لا أعتقد انّ هذا الخطاب سيأتي بأي مكاسب، بخاصة أنّ القاعدة العامة تقول: ليس في الإمكان انتظار نتائج مختلفة من تكرار الفعل نفسه كل مرّة”. حتى الآن، يبدو أنّ السوريين خارج التجاذبات الانتخابية. لكن حسم السلطة لأي بلدية كبرى بفارق بضعة آلاف من الأصوات قد يعيدهم إلى قلب الجدل السياسي مرّة أخرى، وهو احتمال قائم في بلديات مثل اسطنبول وهاتاي وأضنة ومرسين بشكل خاص.