لا يمكن أن يزدهر الاقتصاد دون أمن، ولا أن يستقر الأمن دون استقرار سياسي ولا استقرار سياسيا مع الطائفية والفساد.
العراق محظوظ بامتلاكه ثروة نفطية، ولكنه أيضا مبتلىً لنفس السبب. فالاعتماد الكلي على واردات بيع النفط يخلق ثقافة اتكالية ولا يدفع الدولة والشعب نحو الإنتاج الاقتصادي المنافس المثمر. وعندما تقترن هذه الظاهرة بحكومة دكتاتورية أو فاسدة أو بكلتيهما معا، حكومة تستحوذ على ريع الموارد النفطية لتعزيز استبدادها وزيادة ثروات قادتها، تكون النتائج مدمرة.
بالمقابل فالنرويج مثلا دولة نفطية، لكنها لا تعتمد كليا على النفط، بل تستخدمه في تحسين وتطوير بنيتها التحتية وكذلك ترصد منه جزءا كبيرا لضمان مستقبل الأجيال القادمة.
في العهد الملكي بدأ العراق بداية جيدة بإنشاء مجلس الإعمار، الذي خُصص له قسط من العوائد النفطية. وأوكلت قيادته إلى مجموعة من الشخصيات الوطنية غير المتحزبة أو المسيسة، وبذلك كان خارج سيطرة الحكومة، فالحكومات تتغير، لكن ذلك لم يغير أو يؤثر في مسيرة مجلس الإعمار ومشاريعه طويلة الأمد. كل ذلك كان في الماضي!
تحدثت في المقالة السابقة عن الهجمة على السلطة، التي قامت بها قيادات الأحزاب الإسلامية، بتأييد القيادات الكردية، والتي ترجموها إلى توظيف بالجملة في دوائر الدولة لكل من يواليهم أو يدّعي موالاتهم فتضخمت المؤسسات الأمنية والحكومية ومؤسسات القطاع العام بموظفين لا حاجة لها بهم ومنهم وهميون “فضائيون” أصلا.
ففي قطاع الكهرباء مثلا كان عدد المنتسبين قبيل 2003، خمسة وثلاثين ألف موظف، موزعين على ثلاث شركات، تأتي ميزانياتها التشغيلية من جباية أجور الكهرباء. أما الآن فقد تجاوز عدد المنتسبين 100 ألف موظف، تصرف رواتبهم من الميزانية العامة.
وفي الجيش تضخم عدد حاملي الرتب العليا بلا استحقاق وبشكل لا يتماشى مع حجم الجيش وقدراته. فعدد الجنرالات في الجيش العراقي عشرة أضعاف عددهم في الجيش الأميركي! أما مستواهم المهني فقضية مختلفة جدا. وقل مثل ذلك في الشرطة ودوائر الحكومة الأخرى الفيدرالية منها والمحلية، بشهادات الكثير منها مزورة أو صادرة من مؤسسات تافهة.
ولا ننسى عشرات الآلاف إن لم نقل مئات الآلاف من “الفضائيين” والنواب الذين يقبضون رواتب تقاعدية لعملهم في البرلمان لدورة واحدة، إضافة للمستفيدين من قانون رفحاء وقانون السجناء السياسيين الحقيقيين والمزورين.
لم يكن كل ذلك إلا لترسيخ ما يكفي من الولاءات إلى درجة تسمح بالنهب الكبير، الذي ترتكبه الأحزاب وقياداتها من المشاريع الكبرى، الحقيقية منها والوهمية. باختصار هي عملية نهب منظمة لموارد الدولة، التي ينبغي أن تصرف لخدمة جميع الناس وتحسين حياتهم.
كيف نخرج من هذه الحالة المرَضية الشاذة التي لا يمكن استمرارها؟ وكيف نتحول إلى الحكم الرشيد بحيث تقتصر دوائر الدولة على الحد الأدنى من الموظفين والمنتسبين المؤهلين للقيام بأعمالها؟ سوف يقتضي ذلك بالتأكيد تقليصا كبيرا في عدد الموظفين والمنتسبين وسد ثغرات الفساد المنظم.
هذا التغير لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها. فقد نشأت طبقة واسعة من الموظفين غير المنتجين، البعض منهم مجرد لولب صغير في ماكينة الفساد الجبارة. هذه الطبقة لن تتقبل التغيير والإصلاح طائعة، ولن تعترف بواقع طفيليتها ولن تتخلى عن امتيازاتها غير المشروعة بسهولة.
أغلب المجتمع مقسوم إلى صنفين؛ موظفون في الدولة بإنتاجية متدنية جدا يعيشون على مواردها بشكل طفيلي، وصنف آخر محرومون من الوظائف الحكومية يحلمون بالحصول عليها، في وقت لم تعد فيه الجامعات معنية برفع المستوى العلمي، بقدر اهتمامها بإصدار شهادات هي بمثابة إجازات عمل في الدولة، لا يصلح الحائزون عليها لأي عمل إنتاجي مثمر.
إذا حصلت هزة في سوق النفط وانخفض سعره أو تعرقل تصديره لأي سبب تعرضت الدولة بكاملها إلى خطر الانهيار.
الحالة التي يجب أن نصل إليها، ولو بعد سنوات من الخطوات التدريجية المدروسة بعناية، هي حالة الحكم الرشيد، الذي لا يحمي النهب المنظم بل يحمي حقوق الجميع وفي مقدمتهم الضعفاء والمحرومون. والخطوات الضرورية لتحقيق ذلك والتي ينبغي أن تدرس قد تتضمن الآتي:
استعمال التكنولوجيا الحديثة لإكمال مشروع الهوية الموحدة، التي تستخدم العلامات البيولوجية لكل فرد، فيكون له (أو لها) رقم وحيد ثابت يُستعمل في كل تعاملات الفرد مع الدولة. هذا سوف يساعد على القضاء على ظاهرة تعدد الرواتب الحكومية للشخص الواحد وظاهرة “الفضائيين”.
إعادة النظر في أجهزة الحكومة برمتها وإلغاء المؤسسات والدوائر، التي لا تضيف شيئا سوى طبقات من البيروقراطية عديمة الفائدة ومكلِفة وربما مضرة أيضا. مثال على ذلك، إذا عززنا ديوان الرقابة المالية ورفدناه بالعناصر النزيهة الكفوءة فلن نحتاج إلى دوائر المفتشين العامين ولا إلى هيئة النزاهة ولا إلى المجلس الأعلى لمكافحة الفساد الذي أنشئ مؤخرا.
إدخال الحوسبة على نطاق واسع في عمل دوائر الدولة مع أنظمة يضعها أخصائيون، تتيح مراجعة كل الخطوات في كل معاملة حكومية مع توقيتاتها والشخص الذي أمضاها أو أوقفها، وتسهيل عملية التفتيش على حسن سير العمل، لتكون أداة هامة في الحد من الفساد الإداري.
إنشاء مجلس الخدمة العامة والحرص على أن يقوم عليه إداريون مؤهلون مشهود لهم بالكفاءة وغير مسيسين، حتى وإن استقدمناهم من خارج البلد في المراحل الأولى. ويكون التعيين في كل دوائر الدولة من خلال هذا المجلس حصرا وبالتنافس الفعلي.
ترشيق دوائر الدولة المدنية منها والعسكرية، بإشراف وإدارة مجلس الخدمة العامة إلى الحد الأدنى القادر على أداء مهماتها والاقتصار على الكفوئين المؤهلين وفق معايير محددة للتأكد من الخبرة.
تحويل الموظفين والمنتسبين الفائضين عن الحاجة إلى سجل مركزي، وتسريحهم من العمل في دوائرهم، التي كانوا ينتسبون إليها. ودفع رواتب مخفضة لهم، لمدة محددة، تتيح لهم فرصة إيجاد عمل بديل.
التخلي عن مبدأ التوظيف مدى الحياة، فالذي يعمل في الدولة يكون شأنه شأن الذي يعمل في القطاع الخاص، وعليه أن يكون منتجا ولا ترقيته وظيفيا إلا بشكل تنافسي. وإذا وُجد أنه فائض عن الحاجة أو مقصر في عمله يكون بالإمكان إنهاء خدماته بعد إجراءات مبسطة وعادلة، وإحالته إلى سجل المسرحين من العمل وتتم معاملته مثلهم حتى يجد عملا آخر. وتكون الإجراءات التي تحكم كل ذلك بإشراف مجلس الخدمة العامة، الذي ينبغي تحصينه من المحسوبية والابتزاز وسوء الاستغلال.
تقوية نظام الضمان الاجتماعي، بحيث يشمل جميع المواطنين العاطلين عن العمل بدون استثناء، وتكوين مراكز تدريبية لتهيئة الفنيين والإداريين الذين يحتاجهم القطاع الخاص.
هذه التغييرات تعني ثورة في المفاهيم والعقليات والتحول من الثقافة الاتكالية الطفيلية إلى الثقافة التنافسية المنتجة، باستثناء غير القادرين على العمل. أما القادرون الذين لا يجدون عملا فيساعدهم المجتمع حتى يجدونه.
لكن جميع الإصلاحات لن تكون ممكنة دون استتباب الأمن وخلق بيئة مشجّعة للقطاع الخاص والاستثمار الوطني والخارجي لخلق فرص عمل متزايدة ولاسيما للشباب.
هناك تجارب كثيرة في مجتمعات أخرى مرت بمراحل مماثلة. ويمكن الاسترشاد بما فعلته الصين مثلا، حيث كانت كل القوى العاملة تعمل في الدولة حصرا في عام 1965. لم يكن هناك أي عمل خارج الحكومة. وفي عام 1997، أي بعد سنوات من الانفتاح الاقتصادي، الذي أحدثه دينغ شاو بنغ، كان العاملون في القطاع الخاص يمثلون حوالي 10 بالمئة من القوى العاملة وينتجون 50 بالمئة من الناتج القومي. وبعد عشرين عاما أي في 2017 وصلت نسبة العاملين في القطاع الخاص حوالي 44 بالمئة من مجموع القوى العاملة (340 مليونا من مجموع 776 مليونا). حدث كل ذلك في بلد يحكمه الحزب الشيوعي ولا يزال يدعم القطاع العام لأسباب أيديولوجية وأمنية.
وفي بلدان ريعية أخرى مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، مع اختلافاتها، هناك برامج لتقليص التوظيف الحكومي وتوسيع دور القطاع الخاص، يمكن دراستها والاستفادة مما يمكن الاستفادة منه.
الثروات التي توفرها الإصلاحات وترشيق الجهاز الحكومي والسيطرة على الفساد المالي والإداري، يمكن أن تستخدم في بناء وتطوير البنية التحتية من طرق وجسور ومواصلات واتصالات ورفع مستوى التعليم والخدمات الصحية، وسوف تحدث انقلابا في مستوى الحياة في البلد ويكون أثرها التراكمي عظيما. ومن دونها سنبقى في مسار منحدر نهاياته كارثية بلا شك.