التنمية الاقتصادية المتوازنة تُنقذ سورية من وحش التشدّد

3

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F

عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

تعيش منطقتنا منذ إعادة هيكلتها على الصعيد السياسي، قبل نحو قرن، مرحلة عدم استقرار على المستوى الداخلي الخاص بكل دولة، وعلى المستوى الإقليمي بين مختلف الدول. ويمكن ملاحظة ذلك في موقفين متعارضين متنافيين، إن لم نقل متناقضين يطبعان بميسمهما وشمين يرمزان إلى توجّهين غير متكاملين في رؤية الأنظمة العسكرية الجمهورية التي حكمت دول منطقتنا، وهي دول رسمت حدود معظمها اتفاقيات الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. التوجه الأول تجسّد في تمسّك السلطات المحلية بحدود تلك المساحات التي أصبحت دولاً مستقلة لها أعلام وجيوش وأناشيد وطنية خاصة بها. أما التوجه الثاني فقد تجلى في سعي تلك الدول، في الوقت نفسه، إلى شرعنة ذاتها أمام الداخل الوطني، برفع شعارات تحرير الأرض وتوحيدها ضمن إطار دولة قوية تستطيع مجابهة القوى المعادية ومخطّطاتها. وهذا ما كان على وجه التخصيص في مصر وسورية والعراق؛ وهي البلدان التي شهدت ولادة أحزاب قومية الأيديولوجيا، ولكنها مع ذلك كانت متخاصمة إلى حد التناحر، الأمر الذي يؤكّد الطابع الوظيفي لشعاراتها الكبرى الخاصة بالتحرير والتوحيد.

وفي مواجهة تلك السلطات العسكرية التي تمترست بالأيديولوجيا القومية، كانت المعارضة التي تشكّلت من قوى متعدّدة التوجهات، شملت القوميين المختلفين أيضاً، ولكن التيار الأقوى بين تلك المعارضة كان الإسلامي، الإخواني تحديداً، خاصة في سورية ومصر، وإلى حد كبير في العراق أيضاً، رغم خصوصيته المتمايزة عن خصوصية كل من سورية ومصر.

واعتمد الإسلاميون الدعوة إلى دولة الخلافة وتوحيد الأمة أيديولوجية تعبوية، تمكّنت من استقطاب جماهير واسعة من المؤيدين والمؤازرين الذين وجدوا في الهدف المعلن من الإسلاميين هدفاً يستحق العمل من أجل الوصول إليه، والتضحية في سبيله. ولإنجاز ذلك، وفق ما كانوا يصرّحون، كان التخلص من حكم العسكر في مقدّمة الأولويات، فهذا الحكم كان يعد، وفق حساباتهم، العقبة الأساسية أمام تنفيذ مشاريعهم التي كان تتمحور حولها جهودهم في ميدان العمل، من أجل الوصول إلى السلطة وبأي ثمن.

أما في منطقة الخليج، فالملاحظ أن الأيديولوجيا بصورة عامة لم تصبح هي الموجّه لحكوماتها، رغم التزامها بالعروبة الاجتماعية الثقافية، إذا صحّ التعبير، ولكن من دون أن تتحوّل إلى صيغة من صيغ العروبة السياسية لتستخدم أداة للشرعنة، ومحاولة توسيع النفوذ من خلال رفع شعارات كبرى. والأمر نفسه بالنسبة إلى الأيديولوجيا الإسلامية، فرغم الطابع المحافظ الذي اتصفت به المجتمعات الخليجية بصورة عامة، وما زالت؛ ظلّ نزوعها العام نحو التدين المعتدل غير المتشدّد، وحتى السلفية التي ظهرت في بعض البلدان الخليجية ظلت، في توجهها العام، معتدلة لم تتبنّ، بصورة عامة، التوجّهات التكفيرية العنفية التي انتشرت لاحقاً في جملة من دول الأنظمة الجمهورية العسكرية.

إلى جانب الاستبداد، يُعدّ الفساد من بين العوامل التي أثارت حفيظة مختلف الشرائح الشعبية في دول عربية عديدة

وكان من اللافت أن الإدارة الرشيدة في تلك المجتمعات قد تمكّنت من تأمين الحاجات الأساسية لمواطنيها، خاصة من جهة تأمين فرص التعليم والعمل والرعاية الصحية، بفضل الإدارة العقلانية للموارد، والمشاريع التنموية الاستراتيجية. في حين أن شعوب دول الجمهوريات العسكرية، رغم وجود الإمكانات، كانت تعاني من ناحية من الصعوبات المعيشية، نتيجة فساد (واستبداد) السلطات التي كانت تحكمها؛ وكانت، في الوقت نفسه، تدفع ضريبة تلك الشعارات الكبرى التي كانت ترفعها السلطات المعنية ومعارضاتها في الوقت نفسه، وهي شعاراتٌ أراد بها أصحابُها تفسير السلبيات التي كانت تعاني منها مجتمعاتهم، عبر اتّهام الآخرين، والتنصّل من المسؤولية، فتارّة كانت التهم توجه من الأنظمة العسكرية للاستعمار والقوى الإمبريالية والرجعية والصهيونية المتآمرة على الأمة، بهدف الحيلولة دون تحرّرها ووحدتها وتقدّمها، وتارّة كانت التهمة توجّهها التيارات الاسمية المعارضة إلى القوى التي لا تريد الخير للإسلام والمسلمين، وتعمل على تحطيم الدين الإسلامي. وفي الحالتين، كان يسود الخطاب المتشدّد، سواء القومي التخويني أو التكفيري التفجيري الديني المذهبي، وما زال.

وما كان، وما زال، يعطي دفعة للاتجاهات المتشدّدة، القومية منها والدينية المذهبية في منطقتنا، يتمثل في جملة عوامل خارجية وداخلية، في مقدّمتها إحساس الناس بالمواقف غير العادلة التي تتّخذ على المستوى الدولي تجاه قضاياهم، واعتماد سياسة الكيْل بمكيالين، وتلمّسهم لها بصورة شبه يومية. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى القضية الفلسطينية، التي كانت باستمرار بمثابة الحافز الدافع للتيارات القومية والدينية، لارتباطها الوثيق بالجانب الوجداني لدى العرب والمسلمين، وقدرتها على إثارة المشاعر والتعبئة الشعبية في الداخل الفلسطيني، وبين أوساط الشعوب العربية والإسلامية؛ ولعلّ هذا ما يفسّر سرّ حرص النظام الإيراني على استغلال هذا الموضوع وتوظيفه في خدمة سياساته التوسّعية في دول المنطقة، هذا إلى جانب جهوده في ميدان استغلال المظلوميات الشيعية، ومحاولاته المستمرّة على صعيد إحداث تغييرات بنيوية في المجتمعات المجاورة، بغية تأمين حاضنة شعبية مساندة لتوجّهاته التوسّعية، بالتنسيق مع أذرعه من المليشيات المحلية واعتماداً عليها.

يحتاج السوريون إلى توفير الشروط والمقومات الضرورية اللازمة لعملية الإقلاع بالعجلة الاقتصادية على مستوى البلاد بأكملها، وفي جميع الميادين

وتتمثل العوامل الداخلية في جملة عوامل، في مقدّمتها الاستبداد الذي كانت تمارسه، وتمارسه راهناً أنظمة عربية عسكرية تغلّفت بالشعارات القومية، وتستّرت بواجهات ديمقراطية شكلية؛ فكانت الصدامات عنيفة بينها وبين معارضاتها، لا سيما الإسلامية منها. إلى جانب الاستبداد، يُعدّ الفساد من بين العوامل التي أثارت حفيظة مختلف الشرائح الشعبية في دول عربية عديدة، خاصة الشرائح التي تعيش أصلاً بؤساً معيشياً نتيجة دخلها المحدود، وشعورها بأن لشقائها علاقة مباشرة بالتوزيع غير العادل للثروات، وتحكّم فئة محدودة العدد بمقدّرات الوطن. وما يزيد في درجة تعقّد الأوضاع وسوئها، يتمثل في ضعف إمكانات الدول المعنيّة، وإخفاقها في عملية جذب الاستثمارات، بفعل أسباب عدّة، منها عدم وجود الاستقرار، وغياب القوانين الواضحة الشفافة التي تضمن حقوق المستثمرين. بالإضافة إلى غياب البيئة الآمنة المستقرّة، الأمر الذي يستبعد التفكير في مشاريع حيوية استراتيجية بعيدة المدى، والتركيز، في المقابل، على تلك الآنية الاستهلاكية التي تحقّق ربحاً سريعاً، غالباً ما يجري تقاسمه بين المستثمرين والمسؤولين المحليين، أو من يمثلهم من الواجهات بأسماء رجال الأعمال. ولتجاوز الشعارات المتشدّدة والسلوكيات المترتبة عليها، وإبطال مفعولها، تبقى التنمية المستدامة خير علاج للمحافظة على الأمن والاستقرار الداخليين، فهي التي توجِد فرص العمل، وتعزّز ثقة الناس بأنفسهم والمستقبل، وتنتشلهم من براثن الحركات الأيديولوجية المتشدّدة بكل ألوانها وتوجّهاتها، وتبيّن لهم أهمية الانفتاح على الجوار الإقليمي والفضاء العالمي بعقلية استيعابية، تنشد التشارك، والعمل على قاعدة المصالح المتبادلة.

وبناء على ما تقدّم، نرى أن سورية اليوم، بعد كل ما شهدته من تدمير لاجتماعها وعمرانها من سلطة بشار الهارب، في حاجة إلى تنمية حقيقية متوازنة، تستثمر في الإنسان السوري، أولاً، المعروف برغبته في العمل، وقدرته على الإبداع، وتفانيه في سبيل تحسين شروط حياته وتطوير بلاده وازدهارها.

ولتهيئة الأرضية أمام هذا الإنسان، ليتمكّن من العطاء والإبداع، ويقدّم لمجتمعه كل ما هو مفيد، لا بد من توفير الأمن والاستقرار على المستوى الداخلي، وذلك لن يحدث من دون مصالحة وطنية شاملة تؤسس للمستقبل، وتقطع بصورة نهائية مع الماضي الديكتاتوري البائس الذي عانى منه السوريون جميعاً أكثر من 60 عاماً؛ منها 54 عاماً من حكم سلطة آل الأسد المستبدّة الفاسدة. ولكن المصالحة الوطنية لن تكون مستدامة، ما لم تكن مرتكزة إلى أسس عادلة، في مقدمتها محاسبة كل من أجرم بحقّ السوريين أمام قضاء عادل نزيه وشفاف.

المصالحة الوطنية لن تكون مستدامة، ما لم تكن مرتكزة إلى أسس عادلة، في مقدمتها محاسبة كل من أجرم بحقّ السوريين أمام قضاء عادل نزيه وشفاف

بالإضافة إلى ذلك، يحتاج السوريون إلى توفير الشروط والمقومات الضرورية اللازمة لعملية الإقلاع بالعجلة الاقتصادية على مستوى البلاد بأكملها، وفي جميع الميادين. وهذا لن يتحقق من دون مساعدة المنتجين، ودعمهم ليتمكّنوا من الإسهام الفاعل في عملية بناء صرح اقتصادهم الوطني، وتخفيف حدة ظروف المعيشة القاسية التي يعاني منها السوريون اليوم في مختلف الأماكن؛ وهذا كله يتطلب بطبيعة الحال محاسبة الفاسدين القدامى، وسدّ المنافذ على الفاسدين الجدد، فمخاطر الفساد في يومنا الراهن، وفي الظروف التي نعيشها، تعادل مخاطر الإرهاب والتشدّد والاستبداد، إن لم نقل إنها تتجاوزها من جهة التأثيرات السلبية في البلاد والعباد، فالفساد يلتهم كل شيء، ويدمّر المجتمعات والدول. ويمكن الاعتماد في هذا المجال على كثير من الطاقات السورية الوطنية في الداخل والخارج. ولدينا اليوم أعداد كبيرة من الشباب السوريين المؤهلين في سائر الاختصاصات الضرورية، هؤلاء الذين أرغمتهم جرائم بشار على اللجوء إلى مختلف الدول، لا سيما دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، فهؤلاء تعلّموا في أرقى الجامعات، وأتقنوا اللغات، ولديهم خبرة واسعة في ميادين الاتصالات مع الحكومات والمؤسّسات والشركات التي تستطيع مساعدة السوريين من دون أي مس بسيادتهم، أو تدخل في شؤونهم.

ولعله من الأمور البدهية أن يُشار هنا إلى أهمية بناء العلاقات المتوازنة مع الجوار الإقليمي والمحيط الدولي، وذلك وفق قواعد الاحترام المتبادل، وعلى أساس المصالح المشتركة، والعمل الجماعي من أجل توفير الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها، وحل القضايا والخلافات الموجودة، لا سيما القضية الفلسطينية بمنطق الحوار والتفاهم والالتزام بالقرارات والمواثيق الدولية.

تحتاج سورية إلى جهود سائر أبنائها، ولبلوغ ذلك ينبغي العمل المتواصل من أجل إزالة كل العراقيل التي تحول دون مشاركة السوريين على مستوى الأفراد والجماعات. ستتحقق العملية التنموية الوطنية الكبرى في حال إعطاء الأولوية للولاء الوطني مقابل كل الولاءات الفرعية، أو الولاءات العابرة للحدود الوطنية؛ وهي لن تتحقّق ما لم تكن بجميع (ولجميع) السوريين الملتزمين بوحدة وطنهم ومجتمعهم، وبأهمية مصالح شعبهم. ومثل هذه العملية لن تنجز في غياب عدالة لا يطالها الشك، عدالة تساوي بين السوريين جميعاً أمام القانون من دون أي تمييز أو استثناء؛ مع احترام الخصوصيات والحقوق.

التعليقات معطلة.