في الأيّام القليلة الماضية، طرأت تطوّرات تلمّح إلى بداية تحوّل في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لعلّ سحب واشنطن مجموعة “يو أس أس جيرالد فورد” الهجوميّة من البحر المتوسّط من أبرزها. التصريحات الصادرة من الولايات المتّحدة تشير إلى أنّ القرار روتينيّ. التحليلات الإسرائيليّة غير مقتنعة تماماً.
قال الأسطول السادس في البحريّة إنّ حاملة الطائرات ستعود إلى فرجينيا حيث “تواصل وزارة الدفاع باستمرار تقييم وضع القوّة على مستوى العالم، وستحتفظ بقدرات واسعة في كلّ من البحر الأبيض المتوسّط وعبر الشرق الأوسط”. تمّ إرسال المجموعة الهجوميّة إلى المنطقة في 10 تشرين الأوّل (أكتوبر) بعد ثلاثة أيّام من “طوفان الأقصى”. كان الهدف ردع إيران من توسيع الحرب وتوجيه رسالة دعم لإسرائيل.
حقّقت الخطوة هدفيها. المشكلة أنّ دعم إسرائيل نادراً ما قوبل بـ”ردّ جميل” من تل أبيب. استمرّ القصف “العشوائيّ”، وهو تعبير استخدمه الرئيس جو بايدن نفسه، كما استمرّت المماطلة في تقرير مستقبل غزّة بعد الحرب.
“ليس نبأً ساراً”
كان الرفض الإسرائيليّ للنصائح الأميركيّة واضحاً من البداية. قبل اجتياح غزّة، أبلغ قادة عسكريّون أميركيّون نظراءهم الإسرائيليّين رغبتهم برؤية ردّ مدروس ومحدّد على “حماس”. بناءً على خبرتهم في العراق، اقترح القادة الأميركيّون “نهجاً جراحياً” يجمع بين الغارات الجوّية الدقيقة وسلسلة من اقتحامات قوّات “الكوماندوز”. رفض الإسرائيليّون المقترح ومضوا في خطّتهم بالرغم من التحذيرات التي أطلقتها واشنطن وفي طليعتها تحذير وزير الدفاع لويد أوستين عن أنّ حماية المدنيّين تمثّل “ضرورة استراتيجيّة” لإسرائيل لا ضرورة أخلاقيّة وحسب.
يمكن قراءة خطوة سحب “جيرالد فورد” من الشرق الأوسط في هذا السياق. صحيحٌ أنّ بقاء حاملة الطائرات خضع للتمديد ثلاث مرّات وأنّ قرار إعادتها إلى الولايات المتّحدة مرتبط باعتبارات لوجستيّة أخرى، لكنّ إلغاء فرضيّة الرسالة التحذيريّة الأميركيّة من ورائه ليس سهلاً. كانت الخلافات بين واشنطن وتل أبيب واضحة منذ فترة وتناولها الإعلام مراراً. لكن ربّما وجدت الإدارة أنّه آن الأوان لاتّخاذ خطوة ملموسة للتعبير عن الامتعاض الأميركيّ.
“الحضور البحريّ الأميركيّ المقلّص في المنطقة ليس نبأً ساراً لإسرائيل”، كتب عاموس هاريل في صحيفة “هآرتس” الإسرائيليّة الثلثاء. وأضاف أنّ “الدعم الأميركيّ لجهدها الحربيّ كان مكثّفاً، لكنّ حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لا تتمتّع بخطّ ائتمان غير محدود”.
بين التّصعيد والتّراجع
ربّما ساهم نتنياهو بتقليص خطّ الائتمان هذا. والمسؤولون الآخرون في ائتلافه اليمينيّ المتشدّد سهّلوا المهمّة مع تصريحاتهم “التحريضيّة”، وهو توصيف للناطق باسم الخارجيّة الأميركيّة ماثيو ميلر رداً على مقترحات وزيري المال بتسلئيل سموترتيتش والأمن إيتمار بن غفير الإسرائيليّين بإعادة توطين أهل غزّة خارجها. وقال بن غفير الثلثاء إنّ إسرائيل ليست نجمة على العلم الأميركيّ. بذلك، يخرج المسار الإعلاميّ بين تل أبيب وواشنطن تدريجياً عن الأصول الدبلوماسيّة، وهو ما قد يفسّر ولو جزئياً ما يبدو أنّه بداية خروج للدعم الأميركيّ عن مساره الأساسيّ.
في سياقٍ موازٍ، يواجه بايدن جدول أعمال انتخابياً لا يتوافق مع جدول أعمال نتنياهو. يسعى بايدن إلى وقف وربّما عكس النزيف الحاصل في شعبيّته بسبب دعم الحرب الإسرائيليّة. بالمقابل، يمثّل تصعيد الحرب أفضل أداة متاحة أمام نتنياهو لتحقيق نجاته السياسيّة. فمنذ عيد الميلاد تقريباً، تزايدت حدّة الهجمات الإسرائيليّة على غزّة مستهدفة المئات من الفلسطينيّين، عدد كبير منهم في مخيّمات اللاجئين. حدث ذلك بالتزامن مع مواصلة المسؤولين الأميركيّين، من بينهم وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، حثّ الإسرائيليّين على تقييد حربهم. يوم الجمعة وحسب، قُتل 165 فلسطينياً بسبب الغارات الإسرائيليّة وفقاً لوزارة الصحّة في غزّة. بعد يومين، قال مسؤولان أميركيّان في حديث إلى شبكة “أي بي سي” إنّ مجموعة “جيرالد فورد” ستغادر الشرق الأوسط لتعود إلى الولايات المتحدة.
مع ذلك، يبدو أنّ إسرائيل توجّه إشارات إلى تعديلات على حملتها العسكريّة وسط الضغوط الأميركيّة بحسب صحيفة “ذا هيل”. هل تتحقّق هذه التعديلات بسبب الضغوط أم لأسباب أخرى أمر خاضع للنقاش، ومن المحتمل أن يتداخل أكثر من دافع في هذا الإطار. فقد قرّرت تل أبيب سحب وتبديل ما يصل إلى خمسة ألوية، وأحد أسباب ذلك تغيّر متطلّبات الميدان كما قال محلّلون للصحيفة نفسها. وذكر “معهد دراسة الحرب” أنّ نحو 23 من أصل 30 كتيبة لـ”حماس” تعرّضت للتآكل بفعل الحرب، بالرغم من أنّها لا تزال تحتفظ على الأرجح بـ”احتياط عميق من القادة العسكريّين ذوي الخبرة”.
رسالة إسرائيليّة إلى واشنطن؟
بالتوازي مع هذه الأنباء، جاء اغتيال إسرائيل لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، معقل “حزب الله”، ليشير إلى أنّ إسرائيل لا تزال مستعدّة للتصعيد. يبقى الهدف الأوّل لتل أبيب التخلّص من القيادات الأساسيّة لحركة “حماس”، لكن من بين الأهداف المحتملة الأخرى إيصال رسالة عالية اللهجة إلى الأميركيّين مفادها أنّ إسرائيل هي من تتحكّم بمفاتيح اللعبة العسكريّة في الشرق الأوسط. ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” سابقاً أنّ إدارة بايدن منعت إسرائيل من توسيع الحرب لتشمل “حزب الله” بعد ساعات قليلة على “طوفان الأقصى”.
ربّما يقول الإسرائيليّون إنّ الخفض الأميركيّ المفترض لدعم إسرائيل سيقابله إمساك أكبر لتل أبيب بقرار توسيع الحرب في المنطقة. لا شكّ في أنّ الاستعدادات لاغتيال كهذا تستغرق وقتاً طويلاً وتعود بشكل شبه مؤكّد إلى ما قبل اتّخاذ قرار سحب مجموعة “جيرالد فورد” من البحر المتوسّط وإلى ما قبل تزايد التقارير عن ارتفاع حدّة التباين الأميركيّ-الإسرائيليّ. لكنّ اللافت للنظر أنّ إسرائيل لم تتراجع عن قرارها باغتيال العاروري بعد خفض الأصول العسكريّة في البحر المتوسّط على الرغم من أنّ القرار قد يظهر تراجعاً أميركياً نسبياً في المنطقة. ذكر هاريل من صحيفة “هآرتس” أنّ القرار الأميركيّ قد يعبّر عن رهان خاطئ لواشنطن يمكّن إيران و”حزب الله” من تفسير الخطوة كفرصة لاتّخاذ المزيد من المخاطرة. اللافت أيضاً أنّ إسرائيل لم تخطر أميركا مسبقاً بالعمليّة بل اكتفت بإبلاغها بها خلال تنفيذها على ما نقله إعلام إسرائيليّ عن مسؤولَين أميركيّين وآخر إسرائيليّ.
لا يعني كلّ ما سبق أنّ التباعد سيزداد بالضرورة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو. لا يزال الطرفان يزنان خطواتهما إلى حدّ بعيد. فيوم الجمعة، تفادت وزارة الخارجيّة الأميركيّة للمرّة الثانية منذ بدء الحرب الحصول على موافقة الكونغرس لتحويل مساعدات عسكريّة أميركيّة بقيمة تقرب من 150 مليون دولار إلى إسرائيل. وقد تعبّر الخطوات المتعلّقة بخفض الأصول العسكريّة الأميركيّة في المتوسّط واغتيال العاروري (وقبله الموسوي في سوريا) عن قرارات داخليّة بحتة منفصلة عن التباينات بين واشنطن وتل أبيب. هذا إلى جانب أنّ الأميركيّين لا يزالون يحتفظون بأصول عسكريّة بحريّة أخرى في المنطقة، مثل حاملة الطائرات “دوايت أيزنهاور”. لكنّ تسارع هذه التطوّرات في مرحلة زمنيّة ضيّقة نسبياً يفرض تناول أكثر من فرضيّة. فالوقت الضيّق أمام بايدن تحديداً يزيد من احتمالات تضارب مصالحه مع مصالح نتنياهو في المرحلة المقبلة. وما يشهده الشرق الأوسط حالياً ربّما يكون أحد مظاهر هذا التضارب.