“التّطبيع” مشكلة أميركيّة – إسرائيليّة

1

 المصدر: النهار العربي

عبدالوهاب بدرخان

عبدالوهاب بدرخان

الرئيس الأمريكي جو بايدن.(أف ب)

التطبيع مع إسرائيل لا يبدو الشغل الشاغل للإدارة السعودية، على عكس ما هو بالنسبة إلى الإدارة الأميركية التي أقامت ورشة تعمل بلا انقطاع بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، وتخوض نقاشاً محموماً مع رئيس الحكومة الإسرائيلي وفريقه، ثم ترسل موفدين إلى الرياض للبحث في أي “تقدّم” يطرأ على السيناريوات المطروحة لـ”الاتفاق الكبير”، أو “الصفقة الكبرى” كما يُسمّى. وقد استهلكت واشنطن وقتاً طويلاً قبل أن تتوصّل إلى تصوّر شامل لهذا الاتفاق بجوانبه المتعددة: تطوير نمط التحالف بين السعودية والولايات المتحدة، أسس التطبيع السعودي – الإسرائيلي، وإنجاز اختراق ما في الجمود المسيطر على المسألة الفلسطينية. لكن يُفهم من تحليل المعلومات القليلة عن الاتصالات الجارية أن ثمّة قبولاً في واشنطن، وهذا نادرٌ أميركياً، بمعقولية المفاهيم التي حدّدتها السعودية للذهاب إلى التطبيع ما دام قد أصبح “استحقاقاً إقليمياً” يجب التعامل معه، سواء مع إسرائيل أو مع إيران. فمنذ أطلق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان موقفَيه (نيسان/ أبريل 2022) من هاتين الدولتين أُنجز اتفاق برعاية الصين مع “جيراننا إلى الأبد” في إيران (10 آذار/ مارس). أما الاتفاق مع إسرائيل كـ”حليف محتمل في العديد من المصالح”، فلا بدّ أن يتمّ برعاية والتزامات أميركيتين، و”لكن – قبل ذلك – يجب أن تُحلّ المشكلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين”.  ولعل آخر توضيح لهذا الموقف جاء من وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، بقوله في مؤتمر صحافي مع نظيره الأميركي (8 حزيران/ يونيو الماضي)، إن “التطبيع مع إسرائيل يصبّ في مصلحة المنطقة، لكن تجب معالجة القضية الفلسطينية أولاً”، وردّ أنطوني بلينكن بأن واشنطن “تعمل على تكامل إسرائيل في الشرق الأوسط، وعلى تعميق اتفاقات (التطبيع الأخرى) الموجودة وتوسيعها”، ولم يتطرق إلى الشأن الفلسطيني، لكن الوزير السعودي أضاف أنه “من دون وجود سلام مع الفلسطينيين، فإن أي تطبيع مع إسرائيل ستكون فائدته محدودة”. كان ذلك تأكيداً رسمياً بأن السعودية تضع حلّ القضية الفلسطينية أو تحريكها على الأقل، جنباً إلى جنب مع مصالحها الدفاعية مع أميركا، في صلب “الاتفاق” الذي باتت الإدارة الأميركية تعتبره من أولوياتها وتخطط لأن يكون “الإرث” الذي يتركه جو بايدن. لذلك حُدّد آذار (مارس) 2024 كأقصى مدى زمني للمساعي الجارية، فإمّا أن تُطوى من دون الاعتراف بإخفاقها، وإمّا أن تنجح ويمكن لبايدن أن يستند إليها في معركة إعادة انتخابه، خصوصاً إذا كان في مواجهة منافسه السابق دونالد ترامب صاحب “صفقة القرن” السيئة الذكر. لكن ما لا يزال بحاجة إلى تأكيد هو موقف إدارة بايدن من مطالب/ مصالح السعودية في شأن “اتفاق دفاعي” ورعاية “برنامج نووي مدني”، أما الأكثر حاجة إلى التوضيح فهو ربط الموافقة على هذه المصالح بالتطبيع مع إسرائيل. مستشار الأمن القومي جايك سوليفان – مدير الورشة الأميركية – يفسّر الغموض والربط بصعوبة تمرير اتفاق مع السعودية في الكونغرس، ما لم يُرفق بـ”جزرة” التطبيع. وفي هذه النقطة يردّ عليه فريق بنيامين نتنياهو بأنه لا يمكن ابتلاع هذه الجزرة مع عصا “التنازلات الكبيرة” المطلوبة للفلسطينيين. إذاً، فمشكلة التطبيع هي الآن بين الدبلوماسيتين الأميركية والإسرائيلية اللتين تسيران في “خطّين متوازيين”، وفقاً لتقويم مؤسسة “راند”. والواقع أنها نتاج معضلتَين: الأولى تاريخية تكمن في أخطاء موضوعية بُنيت عليها السياسة الأميركية حيال الصراع العربي – الإسرائيلي ثم الفلسطيني – الإسرائيلي، وحفلت بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي وطمس استبدادي لحقوق الشعب الفلسطيني، حتى أن هذه السياسة بلغت حدّ “التواطؤ” الثنائي على أن ترعى أميركا، بعد اتفاقات أوسلو، ما سُمّي “عملية السلام”، فيما تتغاضى عن الاستيطان وضمّ الأراضي والممارسات العنصرية وصولاً إلى تقزيم الوجود الفلسطيني إلى أقليات في معازل محاصرة ومقطّعة الأوصال، ولا سبيل لسكانها سوى قبول الأمر الواقع الاحتلالي، أو الهجرة…  أما المعضلة الأخرى فتأتّت من عدم صدقية وجديّة الدبلوماسية الأميركية في إبقاء “حل الدولتين” قائماً وممكناً، علماً أنه كان من أسس سياستها الشرق-أوسطية. وإذ تُركت إسرائيل تقوّض المقوّمات الجغرافية لهذا الحل، فإن واشنطن تواجه حالياً حكومة إسرائيلية “غير طبيعية” تحت سيطرة يمين أيديولوجي متطرف، يريد كل الأرض الفلسطينية “من النهر إلى البحر”، وليس في قاموسه شيء اسمه “تنازلات” للفلسطينيين. أما نتنياهو، الباحث بأي شكل عن تطبيع مع السعودية، فإن سعيه إلى انتزاع تنازلات من حلفائه قد يفكّك حكومته الحالية، فيما يبدو مستحيلاً تشكيل ائتلاف حكومي آخر مع المعارضة، وعندئذ يمكن أن يواجه احتمال السجن بتُهم الفساد، أو مصير إسحق رابين على أيدي المتطرّفين. كثرت في الآونة الأخيرة زيارات مسؤولين إسرائيليين لواشنطن بحثاً في مخارج من المأزق الذي بلغته مسألة التطبيع مع السعودية، إذ إن نتنياهو أراد أن يرتّب الأميركيون اتفاقاً على نمط “اتفاقات أبراهام” التي تمّت في حينها على أساس سيادة الدول المعنية ومصالحها. لكن موقع “والاه” الإسرائيلي نسب إلى الوزير بلينكن قوله لوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون درامار – ولم يُنفَ هذا الكلام – إن الحكومة الإسرائيلية “تخطئ في قراءة الواقع” إذا اعتقدت أنها لن تكون ملزمة باتخاذ خطوات مهمّة تجاه الفلسطينيين “كجزء من اتفاق التطبيع مع السعودية”، لافتاً إلى أن الرياض تأخذ في الاعتبار الرأي العام في المملكة وفي العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي يجب أن تحصل على “مقابل كبير” في اتفاق التطبيع. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تحتاج إسرائيل فعلاً إلى من يُلفتها إلى ما تمثله السعودية، أم ظنّت أنها تستطيع تجاهله لتحصل على تطبيع مجاني يضفي “شرعية عربية” على احتلالها وممارساتها الإجرامية؟بمعزل عما تراه زمرة التطرّف في إسرائيل، يبدو أن هناك تقاطعاً أميركياً مع الأطروحات السعودية. لذلك كانت دعوة وفد فلسطيني إلى الرياض لتحديد “المطالب” خطوة معبّرة عن المسؤولية التي تضطلع بها السعودية. وكانت مساعدة وزير الخارجية باربره ليف قد التقت الوفد الفلسطيني مسبقاً في عمّان ورفضت كل مطالبه، بل دعته بوقاحة إلى عدم مطالبة السعودية بوضع شروط على التطبيع مع إسرائيل، على رغم علمها بأن “الشروط” معلنة وليست فلسطينية فحسب، بل سعودية. وما دامت السلطة الفلسطينية دُعيت إلى التشاور لرسم أهداف مشتركة فإنها وجدت أقصر الطرق بالعودة إلى “المبادرة العربية” – وهي سعودية في الأساس – لإحياء مبدأ “إزالة الاحتلال مقابل التطبيع العربي”، الذي يمكن ترجمته فقط بـ”حلّ الدولتين” والبدء بتفعيله بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. لكن هذا الاعتراف يتطلّب التزامات إسرائيلية وضمانات أميركية واضحة بجعل تلك “الدولة” حقيقة على أرض الواقع.  

التعليقات معطلة.