الثاني من آب… حين دخل العراق التاريخ مدججًا بالغضب وخرج مكبلًا بالندم
36
في التاريخ السياسي الحديث للعراق، لا يبرز يومٌ مثقل بالتبعات مثل الثاني من آب عام 1990. لم يكن مجرد تاريخ لغزوٍ عسكري، بل لحظة مفصلية كشفت هشاشة الدولة العربية، وانكشاف المشروع الوطني أمام العواصف الإقليمية والدولية.
في ذلك الفجر، قررت بغداد أن تردّ على ما اعتبرته خنقًا اقتصاديًا ومؤامرة إقليمية، بقرار ميداني عسكري خاطف. لكنها لم تكن تدرك أن المعركة لم تعد تُحسم بالدبابات، ولا تُكسب بالشعارات، بل بحسابات دقيقة لقواعد القوة المتحولة في عالمٍ خرج لتوه من الحرب الباردة.
لقد ظنّ العراق أنه بصدد فرض واقع جديد في الخليج العربي، فإذا به يدخل في عاصفة أعادت تشكيل الإقليم لعقود، وفتحت أبوابًا كانت موصدة أمام التدخل الدولي، والاحتلال، والانهيار الداخلي.
إن الثاني من آب، بمعزل عن تقييم النوايا، كشف كيف يمكن لقرار واحد، اتُّخذ خارج شروط السياسة الحديثة، أن يدفع بثمنه وطن بأكمله، وأن يتحول من لحظة ادعاء للقوة إلى نقطة بداية للضعف والعزلة والانقسام.
اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود على اجتياح الكويت، لا يزال العراقيون يتقلبون على جمر الأسئلة المؤجلة: من دفع العراق إلى هذا القرار؟ وهل كانت هناك بدائل؟ وهل كان الغزو فعلًا عدوانيًا صرفًا، أم نتيجة تراكمات وإغراءات ومحاصرة وتوريط خارجي؟
إن قراءة تلك اللحظة لا تكتمل بدون استحضار السياق الدولي حينها: كانت الولايات المتحدة تبحث عن ذريعة لإعادة تشكيل النظام الأمني في الخليج بعد انهيار المعسكر الشرقي، وكان العراق الخارج من حربٍ مدمرة مع إيران، والمثقل بالديون والوعود، يبحث عن مخرج سريع… فاختار أقصر الطرق وأخطرها.
كثيرون داخل العراق يرون اليوم أن الثاني من آب كان بداية النهاية، بداية لحصارٍ دام 13 عامًا، ثم احتلال دمّر الدولة، وفتح الأبواب أمام الطائفية والمليشيات والتبعية.
وفي المقابل، هناك من لا يخفي مراراته من السلوك الكويتي بعد الغزو، لا سيما في الإعلام والسياسة. إذ يُلاحظ أن بعض المنصات الكويتية، بين الحين والآخر، تتبنى خطابًا متعاليًا، يعيد فتح الجراح، ويكرّس عقدة التفوق والانتصار.
هذا السلوك لا يمر دون أثر، بل يعيد بعض العراقيين إلى لحظة ما قبل الغزو، إلى ذاكرة يعتبرونها مؤلمة، ولكنهم يرون فيها أيضًا مبررات للحظة الانفجار.
لم يكن الثاني من آب مجرّد خطأ استراتيجي فادح، بل كان لحظة فارقة، لا تزال ترسم حدود الحاضر، وتشكل ملامح المستقبل. فالتاريخ لا يُنسى، لكنه لا يُكرّر إلا حين يُهمل العقل، وتغيب البوصلة، وتُتخذ القرارات بعيدًا عن الشعب وعن فهم قواعد اللعبة الدولية.
إن الدرس الأهم الذي ينبغي استحضاره في هذا اليوم، ليس فقط في تلاوة بيانات الندم، بل في إعادة قراءة كيف كانت تُصنع قرارات الدولة، وكيف ضاعت بوصلة العراق، وكيف استُدرج إلى فخٍ كان يمكن تجنّبه، لو كانت هناك دولة مؤسسات لا دولة فرد.
ولعل السؤال الأصعب الذي لا يزال يراود الضمير العراقي حتى اليوم: هل كانت لحظة 2 آب قدرًا؟ أم كانت خطيئة؟ وهل سيتكرر المشهد… إذا بقينا نتفاخر بماضٍ لم نحسم روايته بعد، ولم نكتب له خاتمة عادلة؟
ان ماحصل في الثاني من آب، لم تُغزَ الكويت فقط… بل غُزيت الجغرافيا بالعُزلة، والتاريخ بالشك، والمستقبل بالفوضى. لحظة اختُطف فيها القرار الوطني، فدُفعت شعوب بأكملها نحو هاوية لم تختَرها، ولا تزال تدفع ثمنها حتى الآن .