الثقافة والإنسانية وما بعد

5

د.علي بن تميم
رئيس التحرير
في كل قمة ثقافية تنعقد على أرض الإمارات، ثمة تأكيد جديد على أن الثقافة ليست فعلاً تابعاً للسياسة أو الاقتصاد، بل هي الموجِّه الخفي، والضمير الحي، والبعد الأعمق لكل مشروع تنموي أو حضاري.
وقد سعدت بالمشاركة في الدورة الأخيرة من القمة الثقافية بأبوظبي، بدعوة كريمة من معالي محمد خليفة المبارك، الذي لا ينفك يؤكد، قولًا وفعلًا، أن الثقافة هي البوصلة، وأن اللغة العربية تظل ركناً أصيلًا في تشكيل وجدان هذا الوطن. في مشاركتي بقمة أبوظبي الثقافية 2025، وقد حملت عنواناً لافتاً: “الثقافة لأجل الإنسانية وما بعد”، بدت لي اللغة العربية، التي تشرّفتُ بتمثيلها، ليست مجرَّدَ حاضنة للتواصل، بل بوابة لتأملات فلسفية عميقة حول علاقتها بالإنسان والهوية والكون. فاللغة هنا لم تكن وسيلة تعبير فقط، بل كانت موضوعاً في ذاتها، تستدعي الفخر بها، لا من منطلق الحنين، بل من منطلق الإيمان بأنها ما زالت قادرة على الحضور في قلب النقاش العالمي.
إن تأمل عنوان القمة، “الثقافة لأجل الإنسانية وما بعد”، يفتح أفقاً للتفكير في معانٍ تتجاوز التراكيب الظاهرة. فالثقافة، كما نفهمها، ليست نشاطاً هامشياً، بل هي الروح التي تسري في تفاصيل الإنسان وسلوكياته وقِيَمه، وهي التي تمنحه القدرة على إدراك الجمال والعدالة والاختلاف.
أما الإنسانية، فهي في قلب هذا المسار، لكنها ليست مفهوماً ساذجاً أو مثالياً، بل هي مشروع خاضع للنقد وإعادة التقييم، خاصة بعد أن أُسيء توظيفه في القرنين الماضيين لتبرير السيطرة والاستعمار والتفوق العِرقي.
لقد شهدنا عبر القراءات الفلسفية الحديثة كيف جرى تفكيك مفهوم الإنسانية الغربية، وكيف برز تيار ما بعد الإنسانية ليُراجِع مسَلّمات الحداثة التي جعلت الإنسان مركزاً أوحد، وغضّت الطرف عن الكائنات الأخرى، وعن الطبيعة، وعن تنوّع الهويات.
هايدغر، فوكو، دريدا، بورديو، إدوارد سعيد، وغيرهم، لم ينقضوا فكرة الإنسان، بل أعادوا تعريفه في ضوء ارتباطه بالبيئة، بالتكنولوجيا، بالثقافة، وبالآخر المختلف.
تلك الرؤية، على ما فيها من تعدد، تلتقي مع جذورنا الفكرية والثقافية حين نقرأ في تراثنا أن الهوية ليست نفياً للغير، بل هي تَمثُّلٌ للمُطلَق من خلال علاقة مفتوحة بالآخر. حين نقول “هوية” في ثقافتنا، فإننا لا نستعير مصطلحاً وافداً، بل نعيد اكتشاف مفهوم صاغه علماؤنا قبل قرون. فالجرجاني، في تعريفه للهوية، وضَعَنا أمام رؤية ميتافيزيقية تجعل منها “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق”، وهو تعريف يشبه، في جوهره، ما تسعى إليه نظريات ما بعد الإنسانية اليوم من اعتبار الهوية كياناً مَرِناً، متعدّد الأبعاد، يتشكّل من التفاعُل لا من الانغلاق. وإذا كانت اللغة هي الحاضن الأول للهوية، فإن العربية قد أثبتت، عبر قرون من التنوع والتفاعل، أنها لغة لكل الأطياف: من الأقليات إلى النساء، من المسلمين إلى أتباع الديانات الأخرى، من العرب إلى الناطقين بغير العربية. لقد كانت، بحقّ، فضاءً للتعدّد، لا أداةَ إقصاء.
ولذلك، فإن حضور العربية في القمة لم يكن شكلياً، بل كان ضرورة فكرية، تأكيداً على أن الثقافة التي لا تحتفي بلغتها، تفقد أدواتها في الدفاع عن إنسانيتها.
وفي هذا السياق، لا بدّ من استحضار النموذج الإماراتي، كما تجلّى في فكر الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، الذي لم يكتب الشعر إلا وقد ضمّنه القيم التي تشكّل جوهر الإنسانية: الكرم، والتواضع، والشجاعة، والرحمة، والانفتاح، والإيمان بأن الإنسان – كل إنسان – له حقّ العيش بكرامة، وله صوت في معزوفة العالم الكبرى. هذه الرؤية لم تكن شعاراً، بل أصبحت نهجاً مؤسسياً تتّبِعه الدولة في مسيرتها الحضارية.
أما مفردة “ما بعد” في عنوان القمة، فهي عندي ليست لحظةَ نفي للماضي، بل هي لحظة وعي نقدي به. “ما بعد” تعني استمرار التأمل، وانفتاح الأفق، واستدامة القيم الخيّرة، وإدراك أن كل سردية كبرى تحتاج إلى مراجعة، لا إلى تقديس.
“ما بعد” ليست انقلاباً، بل عبور ناضج نحو الممكن القادم. في النهاية، أجد في هذه القمة تعبيراً حقيقياً عن رؤية الإمارات التي تحتفي بالثقافة لا بوصفها ماضياً فقط، بل بصفتها مشروعاً إنسانياً مستقبلياً، يسعى نحو عالم تتجاوَر فيه السرديات لا تتصارع، وتتبادل فيه الثقافات المعرفة لا الادّعاء، وتعلو فيه القيم الجامعة على القيم المتعالية. لذلك، فإن القمة لم تكن حدثاً عابراً، بل كانت رسالة: أن الثقافة، حين تتصل بالإنسان في عمقه، تكون أداةَ بناءٍ لا تهديم، ومجالَ شَراكة لا تفوق، ومدخلًا لفهم الآخر لا لإلغائه.
رئيس مركز أبوظبي للغة العربية أمين عام جائزة الشيخ زايد للكتاب

التعليقات معطلة.