عبد الفتاح طوقان
شهر يناير من عام ٢٠١٥، امضيت أربعة أيام ونصف في رحلة ” قطار النوم ” بالسكك الحديدية لمسافة الفي ميل ونصف تقريبا والذي يسير بسرعه ٥٥ /٦٥ كيلو في الساعة، بين مدينتي تورنتو وفانكوفر في كندا، والتي هي حلم يراود محبي الرحلات والسياحة في العالم.
تناولت في اليوم الثاني الغذاء في عربة الطعام، وهي مكونة من ثمان طاولات كل منها يتسع لأربعة اشخاص بأجمالي ٣٢ شخصا، واستئذان في الجلوس معي بروفيسور يهودي ترأس قسم الدراسات الشرق الاوسطية في جامعة برنستون الامريكية وزوجته وعرفت انهما يحتفلان بعيده السبعيني بعد ان تقاعد.
كان في مهمة خاصة كلف بها وهي اعداد بحث عن “الجراد” في فلسطين وتحديدا في غزة، ورصدت له جامعة امريكية والوكالة اليهودية مبلغ ثلاثمئة ألف دولار، وتذكرتي درجة اولي في مقصورة خاصة ضمن رحلة القطار الذي استقله.
وقال لي وهو يري معي كتاب ” إسرائيل في القانون الدولي وكان ان صدر حديثا “: هل تعرف لماذا خسرتم قضية فلسطين؟ ولم ينتظر أي اجابة. لقد خسرتم القضية لأنكم لا توثقوا ولا تقرأوا، ودوما خيارات الحكومات للوزير الأضعف ولابعاد القارئ والمفكر، وكل اعمالكم فردية ومفروض عليكم مصلحة الحاكم قبل الدولة وقبل الشعب. أنتم أصحاب حق ولكنكم لا تعرفون كيف تحصلون عليه ونحن لسنا أصحاب حق نحصل على كل ما نريد. انتهي الاقتباس.
وعاد الي غرفته في القطار محضرا ملخصا في سبعة عشر ورقة طلب مني ان اطلع عليها وكأني طالبا في الجامعة وهو الأستاذ، تركت طعامي وجلست أقراء كل كلمة بها، وهو ما سأعود اليه في الخاتمة.
و هنا اود الإشارة الي أن عبقرية المنظومة الصهيونية ليست فقط في التخطيط بعيد المدي، في امتلاك أدوات الاعلام، في السيطرة على الاموال العالمية ، في دعم القيادات ، في التأثير المباشر في انتخابات رؤساء دول عظمي، في اختيار أعضاء الحكومات الاسرائيلية، في انتقاء رؤساء الوفود، في نوعيات بعثات تعليمية ذو تخصصات نادرة، في اقامة التحالفات الدولية، في التوثيق، في المماطلة، في التفاوض، وغيرها بل أيضا في الصياغة لكل خطاب رسمي وكل كتاب منشور وكل قرار او معاهدة وكل بحث و دراسة مثل تلك التي كانت بين يدي في القطار.
من “ال “التعريفية في قرار ٢٤٢ الامم المتحدة التي اضاعت الاراض المحتلة والتي هي من بنات أفكار الصهيونية، وأصبحت أراض محتلة أي غير محدده او معرفة احتلتها إسرائيل وتم تعويم الاراض دون تعريف الحدود، بمنتهي الغباء العربي وبموافقة عربية على النص كما ورد الي صياغة كامب ديفيد ووادي عربه واوسلوا، التي وصف بعضها كيسنجر:” لقد تفاجئت كما تفاجئت الوفود الإسرائيلية بالموافقات السريعة والمسبقة من الحكام العرب قبل المناقشة مع الوفود”. وطبعا كان يقصد التنازلات.
“اذن القرار٢٤٢ الذي نص علي “انسحاب القوات الإسرائيلية من أراض احتلت في النزاع الأخير” سمح لإسرائيل بحرية الحركة في المساحات التي قد تعيدها او لا تعيدها من أراض ١٩٦٧ خسرها العرب. وأيضا لم ترد الاراض التي احتلت ١٩٤٨ فتم اختزال الصراع إلى مساحة ٢٢٪ من أرض فلسطين وتم تشريع الاحتلال فضاعت الأراضي المحتلة وشاب الغموض فلسطين الاصلية التاريخية.
انهم يهتمون بتفاصيل التفاصيل عن أي وكل شيء، في الوقت العرب غائبون عن المشهد.
واليوم اعود الي التفاصيل المتداخلة في الورقة التي أطلعني عليها البروفيسور وهي “الجراد” في فلسطين، قال لي بلهجة العالم الأستاذ في الجامعة: اليك ما اكتب عن الجراد واوثقه، فأجبته ولكني اعرف ان “فوستر” وثق موضوع الجراد عام ١٩١٥” وجاء الرد بقسوة ولكنه لم يوثق التواجد اليهودي.
وبادر بالقول: حيث في الفترة من آذار / مارس إلى تشرين الأول / أكتوبر 1915، وقت ان قامت أسراب من الجراد بتجريد المناطق في فلسطين وسوريا وما حولها من جميع النباتات تقريبا، وأدى هذا إلى الإضرار بشكل خطير بالإمدادات الغذائية المستنفدة بالفعل في المنطقة، وكان حجم الهجوم أسوأ بكثير من أي شيء شهدته سوريا وفلسطين في عقود عديدة مما ادي الي تدمير المحاصيل الزراعية في نطاق ٦٠ الي ٧٠ بالمائة.
وأضاف والحديث هنا للبروفيسور اليهودي، أقوم بتوثيق ما يتعلق بدور اليهود فيما يتعلق بسكك الحديد الفلسطينية على وجه الخصوص وإزالة الجراد عن القضبان الحديدية.
كانت الاوراق السبعة عشر تتحدث عن الجراد وعن سكك حديد فلسطين والتي بداياتها تظهر في تسعينات القرن التاسع عشر عندما قامت شركة فرنسية ببناء خط قياس متر بين يافا والقدس بمساعده اليهود ليغطي مسافة 88 كيلومترا تقريبا. وكان هذا الخط يخدم الركاب المسافرين بين البلدتين المذكورتين والقادمين إلى البلاد من الخارج – معظمهم من الحجاج المسيحيين الراغبين في زيارة القدس.
وتبع ذلك مشروع آخر في عام ١٩٠٥ عندما فتحت الحكومة العثمانية خط سكة حديد قياسه ١٠٥سم بين حيفا ودرعا يربطها بسكة حديد “الحجاج” عبر الحجاز إلى المدينة المنورة ومن درعا إلى سوريا وعبر ترانس جوردن (كانت درعا محطة تقاطع في ترانس جودرن).
وهناك خط سكة حديد بين القنطرة على الجانب الشرقي من قناة السويس وحيفا قام به المهندسون الملكيون للقوات المنتصرة للمارشال اللنبي خلال الحرب العالمية الأولى وموازاة مع تقدمهم من مصر نحو فلسطين.
لقد تم بناء الخط في قسمين، أولهما بين القنطرة (مصر) ودير البلح (فلسطين)، وبعد ذلك بين دير البلح وحيفا، مسافة إجمالية تبلغ ٤١٥ كيلومترا.
وبالإضافة الى وضع السكة الحديد، اشتملت الاعمال على امدادات المياه، والطاقة الكهربائية، ومباني المحطات، والبرق، والاتصالات الهاتفية، وما الى ذلك من اجل التنفيذ الذي يستحق المهندسون الملكيون كل الثناء عليه.
وقد ألتصق الجراد بكل ذلك ومنها قضبان السكك الحديدية مما ادي الي تعطل القطارات وتوقف الحركة، فما كان من اليهود المتواجدين في وطنهم الا ان قاموا بتنظيف الخط ورفع الجراد وإعادة الحركة الي طبيعتها بمفردهم لأنه لم يكن هناك الا اليهود سكان الأرض الأصليين.
اذن دور البروفيسور اليهودي هو توثيق ما قام به اليهود من رفع الجراد في محاولة لأثبات وتوثيق تواجدهم وحياتهم التي تعطلت بسبب الجراد عام ١٩١٥، وخصص له ثلاثمئة ألف دولار دفعت له بالكامل مقدما حسب ما قال لي. منتهي الدقة والصدق في التعامل.
هكذا هو الفكر الصهيوني، يعمل في كل الاتجاهات، يستغل كل الاحداث، في الوقت انني قرات وتمعنت مرارا وتكرارا في معاهدات السلام المختلفة، فلم أجد مثلا أي ذكر للشركات التي اغتصبتها إسرائيل وتقوم بتشغيلها وأدارتها وكيف سيتم التعامل معها أو تعويض الشركات، وابسطها شركة سيناء العسكرية للقطارات، وسكك حديد فلسطين التي تأسست عام ١٨٩٠، على سبيل الذكر لا الحصر، وغيرها من الشركات التي تتملك السكك وتدير الخط ومحطات الركاب ومحطات التشغيل وما يستلزم لتسيير القطارات.
الفكر الصهيوني مثل الجراد يغزو المكتبات والوثائقيات ويلتصق بعقول الغرب وقوانينه والمنهجية السياسية في العالم بينما يفتخر العرب بجوائز السلام والاوسمة والنياشين وهم غير مهتمون، فقد سقطت عنهم ” ال ” التعريف” وبقوا في فسيفسائية “ال “التغريب و “ال “التخويف” و “ال “التخريف” يبحثون عن الية تحرك في غياب تام ونقص لدور التوثيق والمتابعة والتدقيق في وزارات الخارجية والثقافة والتخطيط والنقل والاشغال والزراعة، ان لم يكن في كل الوزارات.