الجزائر في 2024: الثقافة قضية سياسية

4

في التاسع والعشرين من كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، ظهر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في خطابٍ أمام برلمان بلاده، مُهاجِماً الكاتب الجزائري- الفرنسي بوعلام صنصال، واصفاً إيّاه – مِن دون ذِكره بالاسم – بأنّه “لصٌّ مجهولُ الأب والهوية مرسَلٌ مِن قِبل فرنسا”. كانت تلك الكلمات بمثابة خاتمة مثيرة لسنة لم تخلُ من الإثارة، بسبب أكثر من قضية اختلطت فيها الثقافة بالسياسة.

قضية بوعلام

في السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وصل بوعلام صنصال (1949) إلى الجزائر العاصمة قادماً من فرنسا، التي يعيش متنقّلاً بينها وبين بلده الأُمّ. غير أنّ تلك الزيارة لم تكن مثل سابقاتها؛ فقد أُوقف صاحب “قَسَم البرابرة” (عنوان روايته الأُولى الصادرة عام 1999) بمجرّد أن حطّ بـ”مطار هوّاري بومدين الدولي”.

وهذا الخبر لم تُعلِن عنه السُّلُطات الجزائرية بشكلٍ رسميٍّ، بل عُلم من الإعلام الفرنسي الذي أثار، بعد قرابة أسبوعَين من ذلك، مسألة “الإخفاء الغامض” للكاتب الحاصل على الجنسية الفرنسية عام 2024 لدى وصوله إلى الجزائر، وهو ما تبعته حالةٌ من التضامن و”القلق” والدعوات إلى إطلاق سراحه في الأوساط الثقافية الفرنسية؛ بدءاً بـ”دار غاليمار”، ناشرة أعماله، ووصولاً إلى “الأكاديمية الفرنسية”، كما في الأوساط السياسية؛ بدءاً بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووصولاً إلى مارين لوبان وإريك زمّور.

بعد الجلبة التي قامت على الضفّة الأُخرى، أكّدت الجزائر خبر الاعتقال، لكن ليس من خلال بيان رسمي يُوضّح بصورةٍ مباشرة ملابساته وأسبابه، بل عبْر مقال نشرته وكالة الأنباء الرسمية وتضمّن انتقادات مزدوَجةً لكلٍّ مِن الكاتب الذي وصفته بـ”المثقّف المزعوم المبجَّل من قِبل اليمين المتطرّف الفرنسي” ولـ”فرنسا الماكرونية الصهيونية”. ورأى المقال في ردود الفعل الفرنسية “ضجّةً كوميدية” تُقدّم دليلاً إضافياً على وجود تيار في فرنسا “حاقد على الجزائر” و”مسرحيةً شرّيرة” يُمثّل صنصال “دمية مناسبةً” فيها.

اتّهم القضاء الجزائري صنصال بالمساس بالوحدة الوطنية

تضمّن المقال إشارةً سريعةً إلى ما اعتُبر سبب اعتقال صنصال؛ وهو “محاولته إنكار وجود الأمّة الجزائرية”. وكان ذلك تأكيداً لتحليلات ربطت بين الاعتقال وتصريحات أدلى بها لموقع “فرونتيير” الفرنسي اليميني المتطرّف، قال فيها إنّ “الجزائر لم تكُن أمّةً ودولةً قبل الاستعمار الفرنسي” (كان ماكرون صرّح بكلامٍ مماثل عام 2021 ثمّ سرعان ما تراجع عنه في خضمّ أزمةٍ دبلوماسية مع الجزائر) وإنّ “أجزاء من الغرب الجزائري كانت تتبع للمغرب وانتُزعت منه خلال فترة الاستعمار”؛ وهي التصريحات التي وصفها مقال وكالة الأنباء الجزائرية بـ”الهيجان التحريفي”.

أُودع صاحبُ “قرية الألماني” (2008) سجنَ القليعة بولاية تيبازة غربَي الجزائر العاصمة، بعد أن وَجّه له القضاء الجزائري، بناءً على “المادّة 87 مكرَّر” مِن قانون العقوبات، تهماً تشمل “التضليل” و”المساس بالوحدة الوطنية”؛ وهي التهم التي يتمّ تكييفها على أنّها “عملٌ إرهابي أو تخريبي”. وبوصفه “مواطناً جزائرياً ليس بحاجةٍ إلى مُحامٍ أجنبي”، رفضَت السُّلطات الجزائرية، في الوقت نفسه، منح تأشيرة دخول للمحامي الفرنسي فرانسوا زيمراي الذي طلبت منه “غاليمار” الدفاع عن صنصال. وردّاً على ذلك، قال زيمراي إنّه سينتظر “بضعه أيام” قبل أن يرفع شكوىً ضدّ الجزائر لدى المفوّض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتّحدة ولجنة حقوق الإنسان في الاتحاد الأفريقي.

وبينما نُقل الكاتب الجزائري- الفرنسي مرّتَين إلى وحدة علاج طبّي في مستشفىً بالجزائر العاصمة، رفضت غرفةُ الاتّهام في مجلس قضاء الجزائر طلباً تقدَّم به محاموه – الذين عيّنتهم المحكمة – للإفراج عنه. وفي الأثناء، خَصّص البرلمان الأوروبي، بطلبٍ من اليمين الفرنسي المتطرّف، جلسةً للقضية، هاجم خلالها نوّابٌ فرنسيون الجزائر، ودعا بعضهم إلى مراجعة الاتفاقيات المبرمةَ بينها وبين الاتحاد الأوروبي. وهذه الخطوة، رأى فيها رئيس “المجلس الشعبي الوطني” الجزائري، إبراهيم بوغالي، “محاولةً للتدخُّل في الشأن الداخلي” و”ممارسةً مفضوحةً لصرف الأنظار عن الانتهاكات الحقيقية لحقوق الإنسان والقانون الدولي”.

وكان كلام بوغالي، الذي أدلى به لمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني مطلع الشهر الماضي، أوّل تصريح رسمي لمسؤول جزائري بشأن قضية بوعلام صنصال، قبل أن يتبعه التصريحُ اللافت وغير المسبوق للرئيس تبون، وهو يخاطب الفرنسيّين: “أرسلتُم لنا لصّاً مجهول الهوية، ومجهول الأب، ليقول لنا إنّ نصف الجزائر ملك لدولة أُخرى”.

قضية كمال

لا يُمكن فصل قضية بوعلام صنصال عن مسألة العلاقات الجزائرية – الفرنسية التي شهدت، في 2024، واحدةً من أسوأ فتراتها؛ ففي تمّوز/ يوليو، سحبت الجزائر سفيرها في باريس ردّاً على الاعتراف الفرنسي بمخطّط المغرب للحُكم الذاتي في الصحراء الغربية. وفي منتصف الشهر الماضي، استدعت السفيرَ الفرنسي لإبلاغه “رفضها القاطع للاستفزازات والأفعال العدائية الفرنسية تجاهها”، في إشارةٍ إلى الحملة الإعلامية التي يقودها اليمين الفرنسي المتطرّف ضدّ الجزائر، قائلةً إنّها “لن تمرّ دون عواقب”، بينما ألغى تبّون زيارةً كانت مقرّرةً لفرنسا، بعدما تأجّلت عدّة مرّات منذ أيار/ مايو 2023.

ينطبق الأمرُ ذاتُه على “قضية كمال داود” التي شغلت، هي الأُخرى، حيّزاً كبيراً مِن الاهتمام في الجزائر وفرنسا خلال عام 2024. ثمّةَ أكثر من نقطةٍ مشتركة بين الموضوعَين؛ فنحن أمام اسمَين جزائريَّين يحملان جنسية فرنسا (حاز داود جنسيتها عام 2020 بقرار من ماكرون) ويكتبان بلغتها، ولكليهما مواقف تتماهى مع اليمين الفرنسي المتطرّف، خصوصاً فيما يتعلّق بمسألة المسلمين والمهاجرين في فرنسا، وملفّ الذاكرة المشترَكة بين البلدَين، والقضية الفلسطينية، مع حضور – من بعيدٍ وبشكل غير مباشر – للخلاف التاريخي بين الجزائر والمغرب؛ وهي مسائل يتقاطع فيها الثقافي مع السياسي على نحو بالغ التعقيد.

في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وبعد إعلان فيليب كلوديل، رئيس “أكاديمية غونكور” الفرنسية فوز كمال داود بالجائزة البارزة عن روايته “حوريات”، أطلّ الكاتب المغربي الطاهر بن جلّون، أحدُ أعضاء لجنة تحكيم الأكاديمية العشر، عبر قناة فرنسية، ليُشدّد على أنّ الاختيار “كان أدبياً، وليس سياسياً أو جغرافياً”؛ فـ”ما يهمّنا هو الصفة الأدبية، لا السياسية”. استطرد مؤلّف كتاب “الإرهاب كما نشرحه لأولادنا” (2017) في الحديث، فناقض نفسه حين أشار – بقصد أو عن غير قصد – إلى مواقف داود السياسية، من دون أن يقول كلمةً واحدة عن الرواية الفائزة في جانبها الفنّي؛ حيث اعتبر إنّ “الحُكم الجزائري معروفٌ بعدائه منذ زمن لهذا الكاتب؛ فهو (أي داود) معارِضٌ، وكان يطالب بحرية التعبير وبتغيير أشياء في الجزائر”، ثمّ أضاف: “لا ننسى بأنّ الحُكم الجزائري منع منعاً كلّياً أيَّ جزائري من أن يتكلّم عن هذه الفترة من تاريخ البلاد”، في إشارةٍ إلى “العشرية السوداء” التي عاشتها الجزائر بين 1991 و2002، وخلّفت مئات الآلاف من الضحايا. بالنسبة إلى بن جلون، فإنّ كمال داود، بروايته هذه “يفضح ما أراد الجنرالات للناس أن ينسوه تماماً، ويُسلّط ضوءاً شديداً على ما حدث، ليؤكّد أنّ من حقّ الأدباء والكتّاب أن يكتبوا عنه”.

اتُّهم داود باستغلال قصّة إحدى ضحايا العشرية السوداء في روايته

بتصويته على داود، بدا أنّ الكاتب المغربي يُكافئ كاتباً يشاركه توجّهاته الفكرية والسياسية. وأكثر من ذلك، ابتعد، في تصريحاته تلك، وبشكل واضح، عن موقعه عضوا في لجنة تحكيم أكاديمية غونكور، ليتحدّث بصفته مغربياً منحازاً إلى الموقف الرسمي لبلده في خلافه المستمرّ مع الجزائر؛ وهو الذي لم يسبق أن سُمع له صوتٌ نقدي حول حرّية التعبير في المغرب أو حول غيرها من القضايا؛ فهو لا يتحدّث عنه إلّا ليكيل المديح لما يشهده من “إصلاحات سياسية ونموّ اقتصادي” (وهو أمرٌ نتمنّى أن يكون صحيحاً)، بينما لا يترك مناسبةً لانتقاد “الحُكم في الجزائر” التي توّقع (وربّما تمنّى)، في كتابه “الشرارة” (2011)، أن تشهد “حرباً أهلية أطول وأعنف وأقسى من تلك التي عاشتها في التسعينيات”.

يمنح هذا الموقع بن جلّون، بشكلٍ ما، صفة الممثّل غير المعلَن لـ”الحُكم في المغرب” داخل لجنة تحكيم “أكاديمية غونكور”، والذي قد يجد في حصول كمال داود على جائزتها “ضربةً” معنوية لخصمه في الجزائر. هذا وجهٌ آخر من وجوه السياسة في “غونكور” التي يصعب الاستخفاف بوجهات النظر التي ترى فيها مكافأةً لداود “الفرنسي أكثر من الفرنسيّين” كما يصف نفسه، على مواقفه التي لا تثير حفيظة بني جلدته فحسب؛ بل أيضاً حفيظة مثقّفين في الغرب نفسه. وقد سبق لعددٍ غير قليل منهم أن اتّهموه، في مقال نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية عام 2016، بـ”تغذية أوهامٍ معادية للإسلام تعتقد بها شريحةٌ متنامية من السكّان الأوروبيّين”.

في الجزائر، وكما كان متوقّعاً، أثار فوز كما داود بـ”جائزة غونكور” ردود فعل متباينة بين فريقٍ رأى فيه استحقاقاً أدبيّاً لا غبار عليه، وآخر وجد فيه مكافأةً فرنسية لـ”كاتبٍ تحت الطلب”. غير أنّ الموضوع سيأخذ أبعاداً جديدة حين تظهر امرأةٌ تُدعى سعادة عربان، عبر قناة تلفزيونية جزائرية خاصّة، متّهمةً الكاتب باستغلال قصّتها الشخصية في روايته “حوريات”.

روت عربان، التي قالت إنّها كانت تتلقّى علاجاً نفسياً من زوجة الكاتب الجزائري الفرنسي، قصّتها بصعوبة؛ إذ فقدت القدرة على الكلام بشكلٍ طبيعي بسبب الحادثة، وهو ما يتطابق مع موضوع الرواية التي تدور بعض أحداثها في مدينة وهران (غربي الجزائر)، وتتناول قصّة شابّة فقدت القدرة على الكلام بعد تعرُّضها لمحاولة قتل ذبحاً في كانون الأوّل/ ديسمبر 1999.

بعد ذلك، أعلنت المحامية الجزائرية فاطمة بن براهم رفع دعوى قضائية لدى محكمة وهران غربَي الجزائر، بِاسم “المنظّمة الوطنية لضحايا الإرهاب” وأُخرى باسم “الضحية”، ضدّ داود وزوجته بتهم “استغلال قصّة عربان من دون إذنها” و”إفشاء السرّ المهني” و”قذف ضحايا الإرهاب” و”مخالفة قانون المصالحة الوطنية” الذي قالت إنّه يمنع نشر أيّ شيء عن فترة الأزمة الأمنية في الجزائر، ثمّ كشفت، بعدها، أنّ المحكمة قبلت الدعوى وستستدعي للتحقيق الكاتب الذي خرج عن صمته، بعد أيام، لينفي استغلال قصّة المرأة، قبل أن يُضيف أنّها “قصّة عامّة؛ فـ”كلّ الناس في الجزائر، وخصوصاً في وهران، يعرفونها”.

قضية إنعام

كان صيف 2024 قد شهد سجالاً ثقافياً واسعاً، ارتبط، هو الآخر، بجائزة أدبية؛ حيث انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي، على مدار أسابيع، برواية “هوارية” للكاتبة إنعام بيوض، بعد فوزها بـ”جائزة آسيا جبّار للرواية” في يوليو/ تمّوز.

انقسم المشهد بين منتقد للكاتبة والرواية التي “تتضمّن عبارات نابية”، وتسيء لسكّان مدينة وهران”، وبين مدافعٍ عنهما، ووصل الأمر إلى إطلاق دعوات لفرض الرقابة على الأعمال الإبداعية، وسحب الجائزة من الفائزة وحتّى معاقبتها، بينما شنّ البعض حملات تشهير صريحة بالكاتبة التي فضّلت الصمت، والناشرة آسيا علي موسى التي أعلنت، في خضمّ تلك العاصفة، إغلاقَ “منشورات ميم” وانسحابها من النشر.

بين بوعلام صنصال وكمال داود وإنعام بيوض، بدا أنّ الحياة الثقافية الجزائرية خلال السنة الماضية اكتفت، أو كادت، بالجدالات الثقافية والسياسية بالغة الحساسية، فحازت الاهتمام الأكبر، بينما يتوارى الفعل الثقافي نفسُه إلى الخلف، في ظلِّ مشهدٍ تُهيمن عليه وزارةُ الثقافة بأنشطتها التي لا تكاد تخرج عن دائرة الرسمي والتقليدي ويخلو من أيّ مؤسّسات أو مبادرات ثقافية مستقلّة.

التعليقات معطلة.