د. رشيد زياني شريف
سواء كانت المعلومات المتداولة في أعقاب زيارة وزير الصحة إلى كوبا (في الوقت الذي يواصل الأطباء المقيمون حراكهم المشروع)، خبرا صحيحا أم مجرد إشاعة، وسواء تم التلويح بهذه المعلومة/الإشاعة (جلب أطباء كوبيين لاستبدال المضربين) فقط لغرض الابتزاز والترهيب أم أنها سارية المفعول وسنشهد قريبا أطباء كوبيين تطأ أقدامهم أرض الوطن، ففي كل الحالات، هذا النوع من التصرفات، من تهديد وابتزاز وترهيب وقمع، لا هي جديدة ولا مفاجئة، لقد استعملتها السلطة حينا من الدهر وهي بارعة في استثمار مثل هذه الحيل لتشديد الخناق على المجتمع وإبقائه رهينة قبضتها. وقبل قراءة ميدانية لهذا الوضع المستجد، وتوضيح مجموعة من النقط، بشأن آليات السلطة في تعاملها مع الشعب الجزائري عموما وأطره على وجه الخصوص، من المفيد التذكير بأن مكمن المعضلة يتمثل في سلطة غير قائمة أصلا لخدمة الشعب والاستجابة لمطالبه، مما يفسر كافة تصرفاتها ويرفع كل لبس عن حقيقتها.
النقطة الأولى، لا بد أن يفهم الجميع ويدرك أن هذه السلطة لم يكن يوما من مهامها تلبية مطالب الشعب، فهي لا تريد ولا تنوي التحاور ناهيك على التفاوض مع مواطنيها وأطرها، لأنها تعتبر ذلك تنازلا غير ممكن وينتقص من شرعيتها، وترى في كل مطلب شرعي، انتقاصا من شرعيتها ومن ثم مستعدة لبذل كل الوسائل والحيل لإجهاضه ولو كان باستنزاف خزينة الدولة وتسليط اشد أنواع القمع لكسر موجة لاحتجاج، مثلما رأينا تسليط عشرات الآلاف من أجهزة الأمن المختلفة لمحاصرة وقمع عشرات الأمهات والأخوات والآباء وحتى الأجداد من أسر المختطفين، واليوم إطلاقها العنان لآلاف البوليس لكسر جماجم الأطباء المقيمين المحتجين.
ثانيا، لم يكن الأمر مثلما روجت له بعض وسائل الإعلام المحرضة من تضليل حول ما ادعته من مطالب تعجيزية للأطباء، من قبيل زعمها أنهم يطالبون 50 مليون سنتيم كمرتب شهري، لأن الأمر ابتداء محض افتراء وبهتان وثانيا لأن السلطة لم تبخل يوما على من يقبل أداء مهام توكل إليه ويقبض لقاءهما عطايا وأنواع الرشاوى، مثلما تفعله مع “النواب” و”السناتورات” الدين لا يقدمون شيئا للشعب، باستثناء رفع الأيدي تصديقا على كل ما يصدر من السلطة، ويكون في معظم الأحيان ضد إرادة الشعب وضد مصالحه، ويمكن أن نقارن ما يحصلون عليه وهو يفوق عشرة أضعاف مرتب الأطباء، وما يُمنح لهم عن بدل السكن وحده يعادل أكثر من راتب شهر كامل للطبيب المقيم، فضلا عما يحصلون عليه من امتيازات للسفر وعن السيارة والهاتف والراتب، التي يتجاوز مجموعها 100 عشرات الأضعاف ما يحصل عليه الطبيب الذي يعمل ليل نهار، ويقضي في مناوبات 24/24 يأكل خلالها ساندويش يعافه كلاب الساسة، وينام في ظروف لا يحسدهم عليها المشردون.
ثالثا، لم يكن رفضها في التعاطي مع مطالب مختلف الفئات، ومنها الأطباء مؤخرا، بسبب مادي بحت، فهي تستطيع أن تشري هذا الحراك كما اشترت السلم المدني ولو اقتضى الأمر استنزاف ما تبقى من خزينة الدولة، من خلال سياسة المن والعطاء، مما يؤكد ذلك أن استجلاب الطبيب الكوبي مثلا، لن يكون براتب أقل من 500 يورو إضافة إلى تكاليف سفره ومسكنه، مما يؤكد أن عدم استجابة السلطة لأطبائها ليس عن عجز مادي وإنما موقفا لكسر كل حراك شعبي وطني يجعلها تشعر بالضعف والعجز وعدم الشرعية، والفرق بين ما تقدمه للطبيب المرتزق والطبيب الجزائري أن هذا الأخير يطالب بحقوق تتجاوز مصلحته الشخصية، بل يتعداها إلى مطلب وطني نبيل، فهو يطالب بتحسين وضع وقطاع منكوب، يبرز فشل السلطة ويجعلها في وضع حرج، بينما الطبيب الكوبي او غيره سيأتي يأخذ مسكنا وراتبا مجزيا ويؤدي ما يطالب به دون مساءلة أحد، وهذا ما تريده السلطة، مرتزقة يقومون بمهام ويأخذون مقابلها، وتنتهي العملية.
هذا النمط من الابتزاز والتهديد والوعيد بحق الأطباء يذكرنا بما كانت تفعله الشركات الرأسمالية المتوحشة في أوروبا في عهود غابرة بحق نقابات العمال عندما كانت ترفع مطلب بتحسين وضع عملها، فكانت هذه الشركات تجلب عمالا من دول مجاورة فقيرة (غالبا من أوربا الشرقية والبرتغال) وتمنحهم أجورا أقل من العمال المحليين، وتسكنهم في إسطبلات، لكن إلى جانب هذا التشابه في الإجراء ثمة فرق شاسع بين هذه الشركات وتصرفات المسؤولين عندنا، فبينما كانت هذه الشركات تمد العمال الوافدين أجورا أقل وظروفا أتعس لكسر حراك العمال المحللين، يدفع نظامنا للأطباء المستوردين أضعاف ما يدفعه لأبناء الوطن، كل ذلك لكسر كل حركة مطلبية، يخشون اتساع رقعتها، فقط لأن الطبيب (والعامل عموما) الجزائري يطالب بمطالب وطنية تروم المصلحة العامة، أما الأجنبي يأتي كمرتزق لأداء مهمة يأخذ عليها، ولا يهمه الوضع الذي يعمل فيه أو المرضى الذين لا يجدون أبسط ضروريات المعالجة.
من أجل التمسك بالسلطة، هذا النظام مستعد لحرق البلد بمن فيها، وقادر على أن يكرر نفس العملية للتعامل مع كل حركة احتجاجية مهما كانت شرعيتها وطبيعة مطالبها، ويمكنه جلب الأساتذة للتعليم وجلب العمال وما إلى ذلك، لكنه لن يستطيع أن يفعل كل ذلك في وقت واحد، ولهذا إذا استفاق المواطن ومد يده إلى يد أخيه، وكل فئة تساند الفئات الأخرى ولا تعتبر نفسها غير معنية، وتجتمع على كلمة واحدة، لن يكفي مال قارون لتلبية حاجيات العصابة في جلب المرتزقة، وبذلك يستطيع الحراك التضامني الشامل أن يضع حدا لها ويحقق أهدافه الجماعية.