وجيه العزايزة
ثمة ما يوحي ضمنيا عند التعمق بالتفاصيل بان تصويت الجمعة العمومية الأخير حول قرار الرئيس الأمريكي بنقل السفارة للقدس إنطوى على “مستجدات” مهمة وفارقة ابرزها التعاطي بإيجابية هذه المرة مع قضية كبيرة وحساسة.
عمليا وضع البيت الابيض بيده ثقله في الميزان عندما قرر علنا معاقبة المصوتين لصالح القرار الاممي الأخير وهذا يحصل للمرة الاولى منذ عقود فيما برز بصورة نادرة ومستجدة ايضا الإنسحاب والتلويح بالإنسحاب من منظمات وإتفاقيات دولية تتبع الأمم المتحدة وتقليص الميزانيات في “نهج أمريكي “جديد.
مثير للانتباه تباين الموقف بين إدارة البيت الأبيض ودوائر القرار الأمريكية الأخرى والتي تمثل الدولة العميقة في أمريكا وهذا أيضاً موقف يجب التوقف عنده ومراجعته.
عند مراجعة التصويت لابد من التوقف عند بعض المحطات المهمة خصوصا إذا ما قررنا مقارنته بالتصويت الحاصل في الجمعية العامة سنة 1975 بالقرار المناهض للصهيونية حيث كانت نتيجته 77 مؤيداً و 35 ضد القرار و32 ممتنع أي ما يقارب النصف ، وذهبت أغلبية الدول الأوروبية للتحالف مع أمريكا وقتها بينما وصل التصويت الحالي إلى ما يقارب ثلثي الجمعية العامة وتصويت غالبية أوروبية وازنة ضد موقف أمريكا.
تجاوز ذلك ما كان متوقعاً من ردود فعل من بعض الدول على تهديدات الادارة الأمريكية مما أعطى القرار الأممي شبه حالة اجماع دولية من القوى المؤثرة خاصة من الدول الأوروبية الرئيسية الهامة مثل (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا …..)، وبعضها وللمرة الأولى لم يمتنع عن التصويت كما كان يحصل في قرارات أقل أهمية من ذلك وأقل مواجهة مع الادارات الأمريكية في الفترات السابقة.
إضافة لتصويت القوى الرئيسية الأخرى (روسيا، الصين، الهند ……) ، مما يطرح سؤالاً هاماً عن أسباب هذا الموقف وما هي الرسائل التي رغبت أوروبا تحديداً توجيهها للادارة الأمريكية والعالم؟.
رغم كل التصعيد الامريكي كان الموقف الأوروبي حاسماً وربما دافعاً ومحفزاً للدول العربية ولو بقنوات خلفية باتجاه تقديم مشروع القرار والاصرار عليه.
وهنا يمكن ملاحظة ان ذلك يؤشر على مراجعة فعلية لتبعية القرار الأوروبي للقرار الامريكي والذي استمر لعقود طويلة كواحد من نتائج الحرب العالمية الثانية،ولو كان على مضض، إلا أنه كان مقبولاً ومبرراً للقيادات الأوروبية في المراحل السابقة أمام شعوبها وضمن التوازنات الدولية في تلك الظروف وتفرد الادارة الأمريكية بقيادة العالم في مرحلة طويلة أمام ضعف مراكز القوى الأخرى (مثل روسيا والصين ….) وبدأت أوروبا بالنهوض حالياً وفرض واقع جديد لها على الارض والانفتاح على تحالفات جديدة.
ثانيا تغيير شكل التعامل من قبل الادارة الأمريكية مع أوروبا من خلال لغة التخاطب الجديدة والتي شكلت تحدياً واستفزازاً للأوروبين قيادة وشعوباً في كثير من المناسبات وبلغة حادة. وما صاحب ذلك من ظهور مساحة واسعة من التباين بين مواقف البيت الأبيض ومراكز القوى الأمريكية المؤثرة الأخرى.
ثالثا تبدو الحاجة الماسة أوروبياً لبناء موقف مستقل نسبياً عن أمريكا لتعزيز موقعها على الخارطة الدولية الجديدة ليتم البناء عليها مستقبلاً وإعادة التوازن للوضع الدولي في المراحل القادمة تحسباً لأي مغامرات أمريكية جديدة على شاكلة مغامرتها في العراق 2003 وذلك باندفاعة أمريكية وتحريض اسرائيلي مستمر إتجاه إيران سواء لإلغاء الاتفاق النووي أو افتعال مواجهة معها أو مع حلفائها في المنطقة.
من هنا جاء الموقف الأوروبي الحاسم فور صدور قرار ترامب برفض القرار عن طريق موغريني وما تبعه من تصريحات دول أوروبية عديدة ومن ثم تصويتها لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة.
رابعا التوجه الأوروبي والمدعوم من كثير من دول العالم لإعادة التوازن والاعتبار لبيت العالم (الأمم المتحدة) وقراراتها وعدم السماح لأي قوة بتغير الوقائع لرؤية ضيقة قد تكون لأمريكا أو ربما فقط لإدارة أمريكية.
عليه يمكن الاستنتاج بأن الموقف الأوروبي بني بلغة المصالح الأوروبية اتجاه علاقاتها الجديدة مع أمريكا والعالم ويحاول تغيير واقع مسار طويل من التبعية لمواقف الولايات المتحدة في كثير من المواقف الدولية، واستغلت أوروبا الوضع الحالي لإدارة البيت الأبيض وتراجع مكاناتها في العالم والاختلال الحاصل داخل مؤسسات القرار الأمريكي بين البيت الأبيض
وبقية المؤسسات مثل البنتاغون والاستخبارات والخارجية.
أوروبا مهتمة بنفض الغبار عن مصطلحات من وزن”القارةالعجوز″ بعد صمت لفترة طويلة وقضية بحجم القدس منحتها الفرصة للتباين.
وعليه فإن قضية القدس وتداعياتها بدأت ترسم ملامح تحول سيظهر أثره على كثير من قضايا المنطقة والعالم باتجاه إعادة رسم التوازن والاعتدال والتعاطي مع الحقوق المشروعة للشعوب ورفض خطف المواقف الدولية ومحاولة فرضها من قبل التطرف والارهاب بكافة أشكاله من خلال منظمات إرهابية أو إرهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل حالياً وتدعمه الادارة الأمريكية.
هل نستطيع نحن العرب البناء على هذه التحولات والمواقف الايجابية ومراجعة أساليب معالجة قضايانا وتحالفاتنا، أم سنضيع هذه الفرصة ونضيفها لما اضعناه سابقا.