مصطفى عطا الله
تستمر مواقع التواصل الاجتماعي في لعب أدوار مهمة ومتعددة في حياة مليارات البشر، ولعبت مؤخرًا أدوارًا مؤثرة سياسيًّا في خلق الحراك الشعبي، وتوحيد الأصوات المعارضة للحكومات الديكتاتورية في العالم، وكانت أداة فعالة في مرحلة انفجار الثورات في السنوات الأخيرة. يبدو أن حكومات العالم، خاصة الاستبدادية منها، قد أدركت هذه الأهمية القصوى لمنصات التواصل الاجتماعي؛ فعملت على استخدامها في الاتجاه العكسي، من أجل تشكيل وعي الشعوب، وصناعة الآراء التي تخدم توجهاتها، وتروج لها، في انقلاب درامي لفلسفة هذه الأفكار.
نشرت منظمة «فريدوم هاوس» مؤخرًا تقريرًا، تؤكد وتوثق فيه هذا الانقلاب الكبير في استخدامات مواقع التواصل الاجتماعي؛ أثبتت فيه تورط 30 حكومةً، من بين 65 دولةً تناولها التقرير، في إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، عن طريق استخدامها لتمرير سياساتها، والتلاعب بالانتخابات، وتشويه المعارضة.
وكانت الطريقة التي اعتمدتها المنظمة في أثناء عملها على التقرير هي تجميع التقارير التحليلية، والأرقام من 65 دولة مختلفة، معينة أرصدة من النقاط لكل دولة، يمكن تحويلها إلى تحليلات مقارنة بين الدول محل الدراسة، مع الحرص على تجميع تقارير دقيقة وتفصيلية حول كل دولة لتدعيم رصيدها من النقاط.
وقام بعمل التقارير مجموعة من الباحثين لدى المنظمة، إضافة إلى فرق عمل حقوقية محلية في كل دولة من الدولة التي شملتها الدراسة، ومثلت الدول تنوعًا يراعي التباين الجغرافي، والتنوع الاقتصادي والسياسي للدول، إضافة إلى مستويات الحرية السياسية والإعلامية في كل دولة، ويغطي التقرير الفترة الزمنية بين الأول من يونيو (حزيران) 2016، و31 مايو (أيار) 2017.
«الجيوش الإلكترونية».. يد الحكومات لاختراق الشعب والمعارضة
واستخدمت 30 دولة، هذا العام، وسائل التواصل الاجتماعي لتنفيذ إجراءات معادية للديمقراطية؛ من خلال ما أطلق عليه التقرير «جيوش تشكيل الآراء»، والتي تتمثل في أشخاص يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي بمقابل مادي، من أجل الترويج لسياسات الدولة، والانقضاض على المعارضين، وابتزازهم، وتشويههم. يقول التقرير: «لعبت التكتيكات الخاصة بالتلاعب والتضليل دورًا مهمًا في الانتخابات في أكثر من 17 دولة على الأقل خلال العام الماضي، وهو الأمر الذي أضر بقدرة المواطنين على اختيار قادتهم استنادًا إلى أخبار حقيقية، ونقاش حقيقي».
ويبرز التقرير، بشكل موثق، سعي بعض الحكومات لدعم مصالحها، ومحاولتها توسيع نفوذها وسمعتها في خارج بلدانها، وكانت الدولة الأبرز التي قامت بهذا السلوك بشكل ممنهج بحسب التقرير، هي روسيا عن طريق حملات توجيه الرأي العام المضللة في الدول الأوروبية وأمريكا.
كذلك، اعتمدت تلك الدول نفس السياسات والأساليب من أجل زيادة شعبية نظامها، وإضعاف منافسيه في الداخل المحلي. وجاء في التقرير أنه وُجدت: «مؤشرات قوية على أن بعض الأفراد يتلقون مقابلًا ماديًّا، لتشويه المشهد المعلوماتي الرقمي لصالح الحكومة، دون الاعتراف بأن هذه المنشورات مدفوعة الأجر(Sponsored)».
الجيوش الإلكترونية في الدول العربية
زخرت قائمة الثلاثين دولة التي تتبع نهج «الجيوش الإلكترونية» بالدول العربية. ووصل عدد الدول العربية في هذه القائمة إلى سبع دول هي: مصر، والبحرين، والمغرب، المملكة العربية السعودية، والسودان، والإمارات، وسوريا. إضافة إلى دول شرق أوسطية مثل: إيران، وتركيا.
وتصدر التقرير الخاص بمصر، انخفاض حرية الإنترنت بشكل عام خلال هذا العام بسبب قرار الحكومة المصرية بحجب مئات المواقع الصحافية دون سند قانوني. بعد ذلك، يأتي التقرير إلى بعض الأساليب التكنولوجية التي استخدمتها الحكومة المصرية في الرقابة والسيطرة على الفضاء الإلكتروني في مصر. كانت أهم تلك الملاحظات، اهتمام البرلمان المصري بسن قوانين تحد من حرية استخدام الإنترنت بشكل عام، إضافة إلى استخدام الحكومة لـ«هاكرز» تابعين لها لاختراق صفحات النشطاء والصحافيين، واستخدام حسابات أشخاص مؤيدين للدولة لنشر بلاغات لإدارة فيسبوك من أجل غلق بعض الصفحات المعارضة بدعوى مخالفتها للمعايير الخاصة بالمنصة.
وفي الإمارات العربية المتحدة، استخدمت الحكومة برامج تم تطويرها بواسطة شركة برمجيات إسرائيلية لتعقب نشطاء وحقوقيين، كما تضمن التقرير اشتراك مصر والإمارات في محاولات حجب تطبيقات الـVPN، بسبب استخدامها للولوج إلى مواقع ومنصات حجبتها الحكومة.
مصر.. النظام الذي كشف عورته
لم تنحصر استخدامات هذه الجيوش في الدول التي أجرت انتخابات في العام الماضي فقط، لكنها امتدت إلى دول لم تتم فيها انتخابات مثل مصر، وفنزويلا، وتركيا، والفلبين.
«ممكن بكتيبتين أدخل على النت وأعملها دايرة مقفولة والإعلاميين ياخدوا أخبار وشغل منها». *الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أحد لقاءاته في 13 أبريل (نيسان) الماضي
هذه الكلمات التي ألقاها الرئيس المصري، كانت تشي بفكرة وُجدت مسبقًا في عقله، وكانت تقارير قد تناولت هذه الحادثة حينها، وأكدت أن السيسي كان قد كلف اللواء «عباس كامل» مدير مكتبه، بضرورة تشكيل فرق إلكترونية، تؤدي وظيفة محددة وهي قيادة الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف الترويج له ولسياساته، وكذلك الهجوم على معارضيه.
اقرأ أيضًا: الرئيس الأمريكي القادم يختاره فيسبوك!
ويأتي التقرير على الآليات التي تعمل بها هذه اللجان والفرق، وتعمل هذه الفرق وفق آليتين أساسيتين: الأولى هي الانتشار على الصفحات الشهيرة الخاصة بالنشطاء والسياسيين والفنانين، وحتى الشخصيات الرياضية، بهدف الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الشرائح الخاصة بمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي. بينما الآلية الثانية فتتمثل في خلق عدد من الصفحات السياسية، وغير السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، على أن يكون دور الصفحات السياسية هو تشويه المعارضة والترويج للرئيس، بينما الصفحات غير السياسية فيكون هدفها جذب الجمهور غير المسيس، وصناعة صورة وطنية ناجحة للرئيس.
في السادس من نوفمبر(تشرين الثاني) الماضي، انتشرت صور مسربة للصحافي المصري المحسوب على ثورة يناير إبراهيم الجارحي، والذي أيد فيما بعد نظام الرئيس السيسي وأصبح أحد الرموز المؤيدة للدولة والرئيس السيسي. ففي صباح ذلك اليوم، انتشرت هذه الصور المسربة من إحدى المجموعات المغلقة (Closed Groups) على موقع فيسبوك، وتبرز فيها منشورات للصحافي تدعو لتبرير كل القرارات التي تتخذها الحكومة، وتأييدها، والترويج لها، وعدم إبراز أي انتقادات لتلك القرارات.
اقرأ أيضًا: سقوط أولى كتائب «تقفيل الإنترنت».. ماذا تعرف عن «سبوبة» اللجان الإلكترونية في مصر؟
ويظهر في الصور أيضًا، منشورات تدعو لدعم أشخاص معينين محسوبين على النظام، وكذلك صور وأسماء حسابات رسمية على فيسبوك لأشخاص مشهورين وتحظى صفحاتهم بقدر كبير من المتابعة، فيما يبدو أنهم مديرو تلك المجموعات السرية. وأكدت هذه التسريبات أن التصريحات التي أدلى بها السيسي في ذلك الشأن لم تكن خاوية المضمون، لكنها كانت تعبر عن خطة كان يجري التحضير لها بشكل غير معلن، قبل أن يُفضح أمرها لاحقًا.
نتائج هذه التقنية المبهرة تغري دولًا أكثر لاستخدامها
يخرج التقرير في الوقت الذي تتهم فيه دول عدة، الدولة الرائدة في مجال الحملات المضللة، وهي روسيا. حيث اتهمت «تيريزا ماي»، رئيسة وزراء بريطانيا مؤخرًا الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» بالتدخل في الانتخابات، ومحاولة القرصنة على الحكومات الغربية من أجل تحقيق مصالح دولته، مهما كانت التكلفة. وحذرت تيريزا بوتين قائلة: «نحن نعرف ما تقومون به، ولن تنجحوا في ذلك الأمر»، وأضافت تيريزا إلى قائمة اتهاماتها للرئيس الروسي، صناعة الأخبار المزيفة، والصور المفبركة، في محاولة من النظام الروسي لتقويض الدول الأوروبية.
من جهة أخرى، طالب نواب بريطانيون إدارة «فيسبوك» بتسليم الأدلة التي تمتلكها عن تورط حسابات مرتبطة بـ«الكرملين» الروسي، وذلك بعدما اعترف فيسبوك بوجود حسابات لشخصيات مرتبطة بالإدارة السياسية الروسية قد دفعت أموالًا من أجل نشر أخبار تؤثر في الانتخابات الأمريكية.
في نفس الوقت، تجري تحقيقات في الأروقة الأمريكية لبحث تأثير النفوذ الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز بها الرئيس الحالي «دونالد ترامب»، في الوقت الذي رصدت فيه التحقيقات الكثير من الأدلة التي تؤيد هذا القول، مثل الإعلانات المدفوعة، والحسابات الوهمية.
وانتقلت هذه التقنية إلى الكثير من البلدان بشكل متسارع، حيث بلغت الدول التي تستخدمها في تقرير هذا العام 30 دولة، حوالي نصف الدول الخمس وستين، بينما كانت 26 في العام الماضي، و25 في عام 2015، وهو الأمر الذي يثبت قناعة حكومات أكثر فأكثر بنجاعة هذه التقنية، ما جعلها تنتشر عالميًّا.
كيف تعمل جيوش «السوشيال ميديا»؟ وماذا تريد؟
ويوضح التقرير الأهداف التي تسعى لتحقيقها هذه «الجيوش»، ويقسمها إلى ثلاث غايات: صناعة التأييد الشعبي المزيف للحكومة، وتشويه معارضي الحكومة، وإبعاد النقاشات التي تتم على الإنترنت عن الموضوعات السياسية المثيرة للجدل، ويتم تحقيق هذه الغايات بوسائل عدة بحسب التقرير؛ ففي الدول الأكثر قمعية، يقوم أشخاص من أعضاء البيروقراطية الحكومية، أو القوات الأمنية أو الاستخباراتية، بشكل مباشر، بالتلاعب بالنقاشات السياسية الدائرة في أوساط الشبكة العنكبوتية.
اقرأ أيضًا: «فوربس»: كيف كان «فيسبوك ماسنجر» طرفًا في الاختراق الروسي للانتخابات الأمريكية؟
في السودان، تعمل لجنة «جهاديي الإنترنت»، التي تعتبر وحدةً داخل جهاز الاستخبارات والأمن الوطني على إنشاء حسابات وهمية تتسلل إلى المجموعات المشهورة على «فيسبوك» و«واتس آب»، وتقوم بصناعة دعم شعبي افتراضي للقرارات الحكومية باستخدام الحسابات المزيفة، والهجوم على المعارضين والصحافيين الذين ينتقدون أداء الحكومة.
في دول أخرى، تستعين الحكومات بشركات متخصصة في العلاقات العامة، وذلك للتلاعب بالرأي العام وتوجيهه لتبني وجهات نظر سياسية معينة تم التخطيط لها وإعدادها مسبقًا، وأوضحت تحقيقات استقصائية الدور الذي تقوم به «ترول فارم»، والتي يتم تمويلها من شخصيات كبرى، ورجال أعمال مقربين من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وفي تركيا، تقارير عديدة أشارت إلى الدور الذي تقوم به شركة «White Trolls»، التي يُعتقد أنها جندت 6 آلاف شخص، من أجل التلاعب بالنقاشات العامة على الإنترنت، والترويج لأجندات معينة، وتشويه معارضي الحكومة، من ساسة، وطلاب، وصحافيين، على مواقع التواصل الاجتماعي.