الحاكم العربي بين الإسلام الصوفي الهادئ والإسلام السياسي العنيف

1

نكتشف طابعين طاغيين في المجتمعات وفي المؤسسات التي تدير الشأن الديني

أمين الزاوي  كاتب ومفكر 

كثيراً ما يقدم الدين الهادئ المعاصر المرتبط بمؤسسة الزوايا على أنه الصورة المثلى للدين الروحاني (رويترز)

هل يمكن أن يعيش الدين والإسلام على وجه الخصوص بعيداً من السياسية؟، متحرراً من الأنظمة السياسية، مهما كانت طبيعة هذه الأنظمة التي تدير الشأن العام في هذا البلد أو ذاك؟

حين نقرأ تاريخ العلاقة ما بين الإسلام بالجمع Islams وذوي القرار السياسي، نكتشف طابعين طاغيين في الممارسة الدينية في المجتمعات الإسلامية وفي المؤسسات التي تدير الشأن الديني، هناك طابع الممارسة الصوفية الطرقية التي تعيش وتنتعش داخل مؤسسة الزوايا، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الدين الهادئ” أو الدين “السلمي” أو “الدين الروحي”، وهو أقرب إلى الدين الثقافي أي الذي يعمل على الاستماع إلى الفرد كقيمة أساسية في المجتمع، أما الممارسة الثانية، فهي الإسلام السياسي أو ما يمكن اصطلاحاً تسميته “الدين العنيف” وهو الذي يتجلى في مؤسسات الأحزاب السياسية التي ظهرت على شكل تنظيم حديث مع حركة “الإخوان المسلمين” عام 1928 وما تفرع عنها لاحقاً من تيارات سياسية إسلامية بعضها على يمينها وبعضها على يسارها ولكنها جميعها خرجت من رحم هذا التنظيم، وفي كل تيار يتجلى العنف الرمزي والعنف المادي.

تركز “حركة “الإخوان المسلمين” وما تفرع عنها وما خرج منها من تيارات أخرى على التربية الأيديولوجية للجماعة وهي في ذلك تؤسس خطابها العنيف داخل القاموس والبلاغة الدينية، كل ذلك بهدف الوصول إلى السلطة وبناء “الخلافة الإسلامية”.

كثيراً ما يقدم الدين الهادئ المعاصر المرتبط بمؤسسة الزوايا على أنه الصورة المثلى للدين الروحاني وأنه يعيش بعيداً من السياسة، خارج التأثير السياسي، متحرراً من ضغط الخطاب السياسي. فإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا التوصيف صحيحاً؟ وهل بالفعل هذه الطرقية الصوفية التي بعضها عابر للبلدان وللقارات استطاعت أن تتحرر من الحس السياسي؟

صحيح أن الحركات الطرقية أو الزوايا في مجملها تقوم على ثقافة ترقية ممارسة الفرد للإسلام الهادئ، الإسلام المتسامح، وصحيح أيضاً أن الإسلام الصوفي الهادئ يحترم المرأة ويعاملها معاملة إنسانية راقية، وهي تقوم بذلك فإنها تستعمل خطاباً يقوم على الثقافة الوطنية والثقافات الإنسانية الداعية إلى السلام والتعايش.

تبحث الثقافة الصوفية وهي تكرس للدين الهادئ على مفهوم السعادة الفردية، وبقدر ما يكون زعيم الطرقية مثقفاً ثقافة عالمة في الدين وفي الدنيا وفي الثقافة الإنسانية، وهذا الأمر متوافر لدى كثيرين من زعماء الزوايا، يستطيع أن يسوق لصورة إيجابية للدين ولا يحفر في الهوامش التي تثير الفتنة كما هو الشأن لدى قادة الدين السياسي.

بكثير من التفاؤل، يعمل المشرفون على الدين الهادئ على المصالحة ما بين الدين والدنيا، المصالحة ما بين الدين والموسيقى، ما بين الدين والشعر، ما بين الدين والفلسفة، ما بين الدين والحرية الفردية، ما بين الدين والإيكولوجيا.

يسعى الدين الصوفي الهادئ إلى وضع الإسلام في علاقة مع الأديان الأخرى، علاقة التعايش لا التنافس، علاقة الشراكة لا الفتوحات، وهو بذلك يحرر الإسلام من صورة دين الوضوء وتعدد الزوجات وجهاد النكاح التي تغطي على نقاشات وهموم الدين السياسي العنيف.

هذه القوة الكامنة في دين التصوف الهادئ تأتي بطاقتها المتجددة من الثقافة التي حملها تاريخ التصوف الإسلامي، ثقافة عميقة ومركبة تركيباً فلسفياً وفقهياً وإبداعياً.

فالدين في بعده الصوفي التأملي حرر الإسلام من التفسيرية الحرفية النصية المباشرة وذهب به إلى الحفر في الدلالات الإنسانية العميقة والأنساق المعرفية والثقافية التي يحملها النص الإلهي.

صحيح أيضاً أن النصوص الصوفية الإبداعية في الشعر والفلسفة والتأويل التي عرفها تاريخ العرب الإسلامي استطاعت أن تطور اللغة العربية نفسها، فنقلتها من لغة البيان إلى لغة السؤال الداخلي، أي أخرجتها من الخطابة الظاهرية إلى التفكيك الداخلي، وهو ما جعل هذه الثقافة الصوفية بما فيها من جرأة فردية عرضة للتهميش والتحريم والتخوين، وهو ما جعل كثيرين من المبدعين المتصوفين يعيشون المحن من ملاحقة أهل الدين السياسي الحرفي، والتاريخ مليء بالأمثلة القاسية، بل إن جزءاً كبيراً من تاريخ التعذيب في الإسلام مثل المتصوفة ضحاياه بامتياز.

وأعتقد لو أن الثقافة العربية استثمرت في الثقافة الصوفية على مستوى اللغة والتخييل والتفكير والحرية لكان للغة العربية شأن آخر، لكن ونظراً إلى ما عاشته الثقافة الصوفية من منع وحجر وقمع وتكفير، فإن خطابها هو الآخر همّش وحورب وتم تعويضه بخطاب الظاهر المليء بالغضب والفارغ من كل سؤال الوجود الفردي والذي هو نتاج الإسلام السياسي العنيف.

ومثلت الثقافة الصوفية بعدتها الفكرية الموطّنة داخل سلسلة من الأقفال والكودات خوفاً لدى الأنظمة السياسية المتلاحقة في التاريخ العربي الإسلامي لأنها الثقافة التي تربط ما بين السؤال الإيماني والسؤال الفلسفي والسؤال الإبداعي، تربط ما بين الجسد والروح، ما بين الحرية الفردية والجماعية، من بين الأنا والآخر.

إذا كانت ثقافة التصوف الإسلامي حصنت الدين من أن تخوض فيه العامة الغوغاء وجعلته مقتصراً على الفهماء والمنشغلين بحقل النصوص انشغالاً فلسفياً ولغوياً وإنسانياً، فإن التنظيمات الحزبية الدينية جعلت من الإسلام سوراً واطياً قصيراً يمكن لأي أحد أن يقفز عليه، ومن هنا تعدد الدعاة والفقهاء ونجوم الشاشات الدينية والمفتون في الصغيرة والكبيرة واختلط الحابل بالنابل وأصبح الإسلام شعبوياً يمكن لأي أحد أن يصدر حكماً ويدعو إلى تنفيذه، وقد عمت ثقافة التخوين والتكفير والصراعات والحروب والكراهية، كراهية المسلم للمسلم وكراهية المسلم لغير المسلم.

لكن الأنظمة السياسية العربية الراهنة هي مجبرة لحماية وجودها على التعامل مع صيغة من الصيغتين السابقتين، الإسلام العنيف أو الإسلام الهادئ.

إلى فترة قريبة كانت الأنظمة السياسية، فترة السبعينيات والثمانينيات، كلما استقوى تيار المعارضة السياسية (اليسارية خصوصاً) أطلقت الأنظمة حراس الاحتياط من قوى الإسلام السياسي لمواجهتهم، كي تعيد التوازن الذي يحفظ موقعها.

لقد اعتمدت الأنظمة السياسية العربية والمغاربية على أصحاب الدين العنيف، أي الإسلام السياسي، لتمتين وجودها وتحويط مقامها وتوريث سلطتها، إلا أن هذا الدين السياسي الذي أكل اليسار بإيعاز من هذه الأنظمة بدأ بأكل الأنظمة نفسها، لقد تعاظم وهمه وتعددت مواقعه ومؤسساته وجمعياته فأراد هو نفسه أن يأخذ مكان السلطة التي تربى في حضنها، فقامت الفتنة التي فتتت بلداناً وأشعلت نيران حروب أهلية كثيرة خلفت مئات آلاف الضحايا (الجزائر وسوريا وليبيا ومصر والسودان وتونس واليمن…).

وحين اكتشفت الأنظمة السياسية درجة ثقافة العنف في تنظيمات الإسلام السياسي ولأن هذه الأنظمة لا يمكنها أن تستغني عن الرأسمال الديني في تقوية وجودها وتعاظم شوكتها، فإنها عادت إلى الاستثمار في الإسلام الهادئ، الإسلام الثقافي الروحي، من هنا أصبحت الزوايا والطرقية، في كثير من البلدان، السلطة السياسية العميقة، هي من يصنع الرؤساء ويصنع الوزراء، كل ذلك من الخلف ومن دون ضجيج.

وأصبحت الزوايا الطرقية قوة فاعلة في المجتمع بخطابها البديل عن خطاب دعاة الدين العنيف وأصبحت رأسمالاً سياسياً قوياً مستتراً في بنية السلطة.

إذا كان الإسلام السياسي الباحث بلهفة عن الخلافة ولو بالفتنة ونشر ثقافة الحروب وأيديولوجيا الفتوحات الجديدة والانقلاب على كل ما هو خصوصي في المجتمع، فمنظومة ثقافة الزوايا تسعى إلى البقاء على ثقافة السلف بمفهومها المحلي الوطني وربطها بالثقافات الإنسانية.

مثل ويمثل دين الزوايا الهادئ أسمنت المجتمعات من شمال أفريقيا إلى بلدان الشرق الأوسط، دين الطاعة لله بكل حرية فردية واحترام المختلف في المجتمع والعيش معه، في حين يقوم الدين السياسي على احترام نظام الحزب قبل احترام قوانين الوطن، طاعة المرشد قبل طاعة الله واعتبار كل ما يختلف معه أو عنه غنائم.

وأمام هذين القطبين تجد الأنظمة نفسها في حيرة، فأي الخيارين تختار وأية ضريبة تدفع؟

التعليقات معطلة.