صلاح سالم
لا تعدو مسيرة الحداثة أن تكون صيرورة علمنة بالمعنى الواسع، طاولت مستويات عدة، وتمكنت من تحقيق طفرة ملحوظة باتجاه توكيد المفاهيم التكوينية لها من قبيل العقلنة والعلمنة والأنسنة. فثمة علمنة للطبيعة نزعت السحر تدريجياً عن ظواهرها الكبرى، وأبطلت التفسيرات الحيوية ذات الطابع الخرافي لها، الأمر الذي أفسح الطريق إلى نمو التفسير العلمي تدريجياً وصولاً إلى المنهج التجريبي، فما إن استقر هذا المنهج وفرض سطوته على الطبيعة حتى أخذ يمدها إلى ما بعد الطبيعة، خارج مجال انشغاله الجوهري ودائرة نفوذه الحقيقية، متورطاً في نزعات وضعية متطرفة وتفسيرات مادية للوجود الإنساني، خلطت بين القدرة على تحليل العالم الطبيعي المشهود، والقدرة على إدراك الوجود اللامحدود، وهذا هو الجذر الذي نبعت منه نظريات التقدم الحتمي وفلسفة الدين الوضعية، التي اعتبرت أن دور الدين انتهى تماماً، ومن ثم فإن نقطة ذروة التقدم العلمي إنما هي نقطة نهاية الإيمان الديني، حيث العلاقة بين الدين والعلم ليست إلا مباراة صفرية بين منتصر ومهزوم.
وثمة أيضاً صيرورة علمنة للسلطة السياسية اقتنصتها من ادعاءات الحق الإلهي المقدس ومن قبضة الكهانة الدينية، ودفعت بها على طريق التطور المدني نحو الديموقراطية السياسية، التي جعلت أو افترضت أن أصل السلطة ليس حقاً إلهياً مفوضاً إلى ملك أو كاهن بل نتاج لعقد اجتماعي بين المحكومين، أرادوا به الخروج من كهف بداوتهم وهمجيتهم، حيث العنف العاري وقوانين الغاب، إلى أفق تحضرهم حيث الشرائع القانونية والأسس المدنية لقيام الدول ونشوء المجتمعات. ولكن ما بدأ عقداً اجتماعياً تحررياً لدى جون لوك بات فهماً إشكالياً، يمزج بين نزعات رومانسية وفوضوية وتحررية لدى جان جاك روسو، ثم عاد إلى نوع جديد من الشمولية جوهرها عبادة الدولة لدى هيغل الذي لم يعتبرها غاية في ذاتها، بل وسيلة لبلوغ الحرية التي هي غاية الحركة التاريخية. لكن ولأن الحرية الأصلية/ العقلية تعوقها الحواس والرغبات والغرائز البشرية فإن الدور الأساسي للدولة هو تنظيم أو ضبط هذه الغرائز حتى تنبلج الحرية الإنسانية. ومن ثم يعول هيغل دوماً على مركزية الدولة، ويضعها قبل الفرد، حيث يرى لها روحاً تحلق في أفق التاريخ تبحث عن حريتها، التي هي لديه ضمانة تحرر كل فرد من المنضوين تحت سقفها، وهنا تكمن الأبعاد الشمولية في تصوره عن مفهوم الحرية. فالحرية لديه ليست الديموقراطية الليبرالية، التي تعوِّل على الذات الفردية وتثق فيها وتعلي من قيمتها، بل حرية شمولية لكيان كلي، ولذا لم يكن غريباً أن تبلغ النزعة الدولتية فالقومية ذروتها في ألمانيا، فكرياً في القرن التاسع عشر، ثم سياسياً في القرن العشرين، فإذا بها تبالغ في ممارسة القمع والقهر والتسلط على مواطنيها بذريعة الحفاظ على أمنها. كما تعتمد استراتيجيات تحرك في المجتمع الدولي تعكس فقط ميولاً عدائية، وتبغي تحقيق غايات استعراضية وليس فقط تحقيق المصلحة الوطنية، وصولاً إلى الخبرة النازية المؤلمة التي لم تكن لتحدث لولا النظر إلى الدولة كمعبود سياسي.
وثمة، ثالثاً، صيرورة علمنة للإرادة الإنسانية نراها منبثة في قلب الصيرورتين السالفتين، وكأنها نتيجة أو عرض جانبي لهما، فلأن الانتقال إلى أفق أرقى من العقلنة والعلمنة قد تم على يدي الإنسان، كان ضرورياً أن يفضي هذا إلى توكيد ثقة الإنسان في نفسه، وإلى تنامي شعوره بالقدرة على انتزاع مصيره من سيطرة الخرافة والأسطورة كما من سطوة الكهنة والملوك المتألهين. غير أن الإفراط في تمجيد الإرادة الإنسانية دفع إلى تصلب تدريجي لنزعة الأنسنة، على نحو صور للكثيرين قدرة الإنسان على أن يكون ليس فقط قطباً ثانياً للوجود، يلي الذات الإلهية كقطب أول له، بل قطباً موازياً ومناقضاً بالضرورة لله، قادراً على الحلول محله في مركز الكون، مصدراً للقيمة وأصلاً للأخلاق.
وتلك قراءة خاطئة من ناحية أولى لمعنى الحقيقة الإلهية التي لم تمنح تفويضاً لأحد أصلاً كي يحكم باسمها. ومن ناحية أخرى لحدود الطاقة الإنسانية، فالإنسان الحديث الذي تصور نفسه قادراً على التحرر من سطوة الألوهية وما تطالب به من مثل عليا للحياة أو تضعه من حدود أخلاقية للسلوك، أو تفرضه من واجبات عبادة، وجد نفسه في الحقيقة عاجزاً عن تحدي قوانين السوق الصلبة وضغوط الرأسمالية العنيفة، خصوصاً في عصر ما بعد الصناعة، الذي شهد انعكاساً جذرياً في العلاقة بين النظامين: التكنولوجي/ الاقتصادي، والأخلاقي/ الاجتماعي.
ففي عصور طويلة مضت، كانت الحاجة هي أمّ الاختراع، أي أن الفن الإنتاجي كان يقوم على تلبية حاجات إنسانية قائمة فعلاً، وملحة أيضاً. لكن ومع التقدم التكنولوجي المضطرد، صار الاختراع أبا الحاجة، القادر على توليدها وتنميتها في الوعي عبر الإلحاح بشتى الصور حتى تستحيل مكوناً أساسياً في حياة الإنسان، وعندها يهرب الاختراع إلى ابتكارات جديدة، وممارسة إلحاح أشد، محولاً إياها إلى حاجات فعلية جديدة، ومن ثم يفقد الإنسان حريته بالمعنى الجوهري، ويسلس قياده للسوق الذي يصير باضطراد معبوداً وثنياً، وإن ظل ظاهرياً قادراً على الاختيار بين بدائل متشابهة جوهرياً، تخيره بين استهلاك واستهلاك، بين ضغوط وضغوط، بين انتهاك وانتهاك، أي بين المر والأمر منه. في هذا السياق، يتم تطويع الإنسان واستلابه، والتعاطي معه باعتباره كياناً مسطحاً لا أعماق له، الأمر الذي نزع عنه ليس فقط سحر الألوهية الذي منحته إياه قصة الخلق التوحيدية، بل أيضاً سحر الذاتية والروحية الذي أضفته عليه فلسفات التنوير منذ الكوجيتو الديكارتي، وحتى التعالي الترانسندنتالي الذي أسبغه عليه كانط، ليصير تدريجياً أسيراً لأزمة معنى هائلة، تكاد تجسد إقطاعاً روحياً، نحتاج معها إلى استعادة بعض السحر القديم إلى داخل عالمنا الذي فقد تكامله سواء بفعل الجفاف الناجم عن عقلانيته الأداتية أو بفعل السيولة المتولدة عن فوضويته الزاعقة.