محمد حبوشه
ينظر خبراء علم السياسة والاجتماع إلى أن الحرب الإعلاميّة تعد من أخطر أنواع الحروب نظراً لتأثيرها فى نفسيّة متلقى المعلومة وعمل غسيل دماغ لما يؤمن ويقتنع به مما يجعله يغيّر الواقع اتباعاً لما تلقى وترسّخ فى عقله من معلومات مضللة تبعث على زعزعة الثقة، كما أنّها فى الوقت ذاته تعد حرباً باردة لا يمكن التنبؤ بنتائجها ونهايتها، وفى بعض الحالات لا يمكن معرفة المسؤول عنها، ومن ثم تأتى بنتائج وخيمة فى ظل عدم مسئوليتها الاجتماعية فى أوقات السلم والحرب معا.
الكلام هنا فى مناسبة الحرب الإعلامية الشرسة التى تعيشها مصر حاليا فى ظل معركة الانتخابات الرئاسية بما تشهده من تداعيات فى أغلبها تشير إلى أن تلك الحرب تأتى مرافقة لبقية أنواع الحروب سواء كانت عسكريّة، أم اقتصاديّة، أم سياسيّة، وقد تكون فى حالة السلم أكثر شراسة فى فعلها الرجيم، حيث تهدف بالمقام الأول والأخير إلى فساد عقول الشباب والأمة، ونشر الفوضى والإرباك بين صفوفهم، ومن ثم تأتى نتائج تلك الحرب الإعلاميّة الشرسة بأثر يساهم فى التأثير على نفسيّة المستمع، وتثبيط عزيمته، وسلب الإرادة منه وبالتالى سهولة السيطرة عليه، فكم من حرب تم تحقيق النصر فيها بسبب ما تم بثه من أفكار ومعلومات بين الجنود، لذلك على الأمة، والدول، وعلى المجتمع التنبّه إلى خطورة هذه الحرب الإعلاميّة، وترسيخ المبادئ، والقيم، والأفكار السليمة عند المواطنين والجنود العسكريين؛ لتحصينهم ضد أى هجمات قد تكون مستترة تحت غطاء العلم، أو التثقيف، أو المساعدة من الخارج .
الكلام السابق يشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن للإعلام تأثيرا واضحا فى تسيير مجريات الأمور فى الحياة العامة فى مصر حاليا، فبعد أن تطورت التكنولوجيا أصبحت وسائل الإعلام متوفرة فى كلّ وقت وحين ولا يمكن لأى شخص أن يبتعد عن تأثيرها سواءً كانت تلفازاً، أم مذياعاً، أم صحيفة، وعليه ينبغى أن نفكر مليا فى كل تلك الحملات التى سبقت الانتخابات الرئاسية الحالية فى مصر تارة بالتشكيك فى إنجازات الرئيس التى تحققت فى أربع سنوات بإعجاز غير منقطع النظير، وتارة أخرى فى تناولها الكريه للمرشحين المنافسين، وذلك بالعبث بالحقائق القانونية حول المرشح سامى عنان وتسويقها على أنها نوع من الاستهداف المتعمد من جانب أجهزة الدولة فى استبعاده من قوائم المرشحين للمنصب الرفيع، ما يشير بالدلالة القاطعة على أن ملامح الحرب الحديثة تغيرت تماما فى الآونة الأخيرة عن الشكل التقليدى التى كانت عليه فى الماضى، فقد تصدرت المشاهد الإعلامية الساخنة المستنفذة للوجدان والمشاعر الإنسانية جميع القنوات الفضائية، ومما لا شك فيه أن ثورة الاتصالات هى التى ساهمت فى تغيير أساليب الحرب العادية، فمن خلال الإعلام تستطيع أن تقود حربًا نفسية ضروس، ومن خلاله أيضًا تستطيع أن تحدث اضطرابات فى بلد مستقر، أو أن تسقط نظام قائم بعرض سلبياته ومثالبه أمام عامة الشعب، فتعمل على شحنهم وشحذ عزائمهم على إسقاطه.
والحرب الإعلامية ليست حديثة العهد بنا، فقد سبق أن استخدمتها الولايات المتحدة فى سبعينيات القرن الماضى للدعاية والترويج للمعسكر الرأسمالى فى حربها ضد الشيوعيين فى سايجون بفيتنام، فقد كانت نتيجة تصوير الحرب فى فيتنام، أن رفض الرأى العام الأمريكى هذه الحرب، وقاد مظاهرات حاشدة تعبيرًا عن هذا الرفض، وقد صورت المظاهرات أيضًا وسائل الإعلام، وقد شرح أحد القادة الأمريكيين أن سبب خسارتهم فى فيتنام هو خسارتهم للحرب الإعلامية، ومن بعدها أدرك الأمريكيون أنه كى يمكنهم كسب أى حرب عليهم أن يخوضوا حربًا إعلامية أولاً.
لكن نظرا لظهور الإعلام البديل متمثلًا فى شبكة الإنترنت جاء كحركة ارتجاعية أو كرد فعل عنيف للواقع الاجتماعى الذى فرضته تكنولوجيا الاتصال بتوفير وسائل نشر بديلة تتمتع بدرجة عالية من الحرية وسهولة الاستخدام وانخفاض الكلفة، وذلك للتخلص من سيطرة النخب الإعلامية على وسائل الإعلام التقليدية فى المجتمع، وغياب المصداقية فى وسائل الإعلام التقليدية، فإن هذه المتغيرات هى التى جعلت من شبكة الإنترنت شريكًا حقيقيًا فى تصعيد الممارسة السياسية، من خلال فتح نوافذ متسعة للجماعات السياسية التى لا تجد لنفسها منفذًا للتعبير عن أيديولوجيتها عبر قنوات التعبير السياسى التقليدية، ولعل النمو المضطرد للشبكة العنكبوتية قد ساهم إلى حد كبير فى حالة الفوضى الإعلامية الحالية والمساهمة فى توسيع رقعة الشائعات والمعلومات المغلوطة، حيث لا ضابط ولا رباط لما تبثه تلك الشبكة عبر مواقع التواصل الاجتماعى من تقارير مزيفة وافتعال وقائع غير موجودة على الأرض فى إطار زعزعة الثقة لدى المواطن فى قيادته ممثلة فى رأس الدولة.
وتحت شعارها “الرأى والرأى الآخر” استطاعت شبكة الإنترنت أن تخرق حاجز الصمت العربى حول العديد من القضايا الساخنة فى المنطقة وأحدثت برامجها المتنوعة على “اليوتيوب” وغيره من مواقع ضجّةً قويةً فى بعض البلدان العربية، حتى باتت معه الخيار الأول للمشاهد العربى والعدو الّلدود لأنظمتها الحاكمة، ومن شأن كل ذلك صناعة البلبلة والتشكيك فى شؤون ومواضيع داخلية، وذلك بتأليب الرأى العام على السياسات المتّبعة فى داخل حدود الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى داخل نطاق المنطقة برمتها، ما كان له أكبر الآثار السلبية على مصر خلال الأربع سنوات الأخيرة، فقد ظلت مواقع التواصل الاجتماعى وبعض وسائل الإعلام الإخوانية بمساندة واضحة من جانب وسائل إعلامية عالمية مثل : “الجاردين – رويتر – أسوشتيد برس – نيويورك تايمز” تعمل على تصدير الإحباطات المتتالية للمواطن المصرى الذى عاش بالضرورة بين مطرقة الإرهاب وسندان الأزمة الاقتصادية الحادة.
إذن يبدو الهدف الأساسى للحرب الإعلامية الجديدة فى شراستها غير المعهودة هو تأجيج بذور الفتنة وتعمل على نشوء حالة من الإستقطاب الحاد بين أبناء الوطن الواحد، ولايسأل عنها الإعلام الأجنبى وحده، فنحن جزء من المنظومة الإعلامية العالمية، لأن إعلامنا العربى الذى يعمل بطريقة غير مهنية مسئول هو الآخر عن احتدام ذلك الصراع، وذلك لتحقيق مكاسب مادية فردية أو لصالح مجموعة بعينها للأسف، وأن يتم تداوله على شبكة التواصل الإجتماعى من معلومات مغلوطة تمثل نوعًا من التشوية ماهو إلا نتيجة الإهمال فى الرقابة على المواقع المعادية التى يسأل عنها الجهات الأمنية، وإذا كان الإعلام المرئى أو الإفتراضى قد ساهم بشكل إيجابى فى إضطلاعنا بالسلبيات والفساد الذى كنا نعيش فيه عقودًا طويلة، إلا أنه اظهر مدى إخفاقنا فى التوافق والتعايش السلمى مع إختلاف توجهاتنا فمتى نستيقظ ياسادة؟
نعم متى نستيقظ من غفلتنا؟ لأن القوى المناصرة لحرية المعلومات تحتاج إلى أسلحة جديدة فى مواجهة المظاهر العديدة لحرب المعلومات الجارية والمتنامية، وينبغى لنا أن ننظر إلى حظر حكومة ما لدخول الصحافيين أو حجب مواقع الأخبار ووسائل الإعلام الاجتماعية على شبكة الإنترنت باعتبارها علامات إنذار مبكر لأزمة تسترعى الاهتمام الدولى، ولابد أن يكون الافتراض المنطقى أن الحكومات التى ليس لديها ما تخفيه لن تخسر شيئاً بالسماح لمواطنيها ووسائل الإعلام المعترف بها دوليا بتقديم التقارير عن تصرفاتها وأفعالها، شريطة أن يتم ذلك كله بنوع من الحيادية فى ممارسة الإعلام لدوره المنوط به .
إن الأمر بدا وكأنه تصنيع للمواقف والاتجاهات، وللأسف الشديد وصل ببعض هذه الأدوات الإعلامية أن تمارس قدرا من غسيل المخ الجماعى وتزييف الوعى بحيث تلاعب الإعلام بالعقول على حد قول “هربرت شيلر” فى كتابه “المتلاعبون بالعقول”، وكان ذلك أخطر ما يمارس من أدوات إعلامية يجب أن تضطلع بأدوار أكثر رصانة وحكمة وثباتا فى المصداقية، وظن هذا الشعب خيرا بتلك الأجهزة بما تقوم ببثه من برامج وبث مباشر حاصرت الجمهور العام من كل طريق وحصرته فى خيارات مصنوعة ومصطنعة، وخرجت عن كل أصول المهنية الإعلامية، وذلك عبر ممارسة إعلام الهواجس فى إطار من تبادل الاتهامات وصناعة الفرقة التى باشرت مع تراكمها التأسيس لصناعة ثقيلة هى صناعة الفتنة، كأن هؤلاء لم يراعوا فى كل أدائهم قوانين الكلمة المسئولة، وأمانة الكلمة الثقيلة، ثقيلة فى جهاد النفس فى قولها وثقيلة فى حسابها.
فالواقع العملى يؤكد إنه لم يكن عوام الناس يعرفون إلى وقت قريب الفرق بين الشيعى والسني، ولا بين المسيحى والمسلم، بل كان الجميع يعيشون جنباً إلى جنب فى إطار من السلم المجتمعي، وكان الخلاف منحصراً بين النخب المثقفة، وكان محصوراً فى المنتديات الفكرية وفى الكتابات حول الموقف من الآخر، لكن الأمر الآن قد تطور كثيرا فى المشهد العربى والمصرى منه على وجه التحديد إلى حالة الفتنة التى قد تحرق الأخضر واليابس فى بلاد مليئة بالفقر والجوع والمرض والتخلف، يضاف ذلك كله الدور السلبى لمواقع التواصل الاجتماعى حيث يعبر فيها فئات من الشباب عن أفكارهم وآرائهم السياسية بطريقة تحمل معها التحريض أحيانا، والدعوة إلى العنف والكراهية، وبعض الآراء التى تطرح فى غالبها لا تدل على التجربة الناضجة والحكمة فى تقدير الأمور، وهذه الإشكالية فرضها واقع وسائل الإعلام فى جنوحها نحو العشوائية والفوضى، ومن ثم فقد ساهمت فى إذكاء نار الفتنة، وهذا الأمر يتطلب موقفاً من القيادات الفكرية المجتمعية فى التحذير من فتنة وسائل الإعلام وخطورتها على السلم المجتمعى وسلامة المجتمع.
يبقى فى نهاية المطاف أن مفهوم الحرب الإعلاميّة هى عبارة عن بث الأفكار والشائعات والمعلومات الخاطئة والمغلوطة وغير السويّة بين الناس من خلال الفضائيات، والإذاعات، والإنترنت، والجرائد بهدف تغيير وجهات النظر وتسييرها باتجاه ما هو مطلوب منها، وتحقيق التضليل الإعلامي، والتلاعب بالرأي، والوعى العام، وسلوك المواطنين.. تلك هى الكارثة!.