د. ياسر عبد العزيز
للدولة الوطنية في كل زمان ومكان أهداف ومصالح، كما تُفرض عليها تحديات، وتحوطها المخاطر، ومن بين أهداف الدولة ما قد يستلزم تحقيقه استخدام مزيج من الوسائل الخشنة والناعمة، سواءً داخل البلاد أو خارجها، ومن بين ما يواجهها من تهديدات ما يقتضي ممارسة القوة في عديد الأحيان.
وفي الآونة الأخيرة، تصاعد مفهوم «الحرب اللامتماثلة» Asymmetric War، وفي تلك الحرب ما يتعلّق بأنماط من التهديد المتنوّع وغير المألوف عادة.
وبكثير من التبسيط؛ فإن «الحرب اللامتماثلة» هي تلك الحرب التي يخوضها مثلاً جيش نظامي مع فصائل أو جماعات مسلحة غير نظامية.
ويختلف كثيرون في منشأ مصطلح «الحرب اللامتماثلة»، لكن يبدو أن أول تعبير متماسك عنها ورد في بحث نشره أندرو ماك في دورية «السياسات العالمية»، في عام 1975، تحت عنوان: «لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب الصغيرة؟ سياسات الصراعات اللامتماثلة».
فـ«الحرب اللامتماثلة» تقوم على استنزاف الأمة/الدولة الكبيرة، وتفتيت قدرتها على الفعل الصلب القوي، عبر استدراجها إلى منازلات محدودة ومتعددة، بغرض إرهاقها، وسلبها تركيزها، وهزيمتها إذا أمكن.
واستناداً إلى ذلك، يؤكّد المحلل الاستراتيجي الأميركي وليام ليند على مفهوم «اللامركزية» فيما يتعلّق بـ«الحرب اللامتماثلة»، فيصفها بأنها «صراع يتميّز بعدم المركزية، وعدم التماثل بين الأسس والعناصر المتحاربة»، والاتساع اللانهائي لجبهة المواجهة.
يعني هذا ببساطة أن أحد الفريقين المتحاربين يجد أن عدوّه يتفوّق عليه في التسلّح والتمركز والإمدادات والعمق الاستراتيجي على سبيل المثال، فيحاول أن يجد أسلحة أخرى يحارب بها معركته، غير تلك التي يمتلكها عدوّه.
ويتمثّل مفهوم «عدم المركزية»، في مقاربة ليند، في وضعية التمركز واختيار الجبهة. أما عدم التماثل فيتعلّق بطبيعة الأفراد، وتنظيمهم، والمعدات والأدوات المستخدمة في الصراع.
سيمكننا اليوم استعارة مفهوم «الحرب اللامتماثلة» من المجال العسكري والاستراتيجي لتطبيقه على المجال الإعلامي، وسيمكننا أيضاً أن نزعم أن مفهوماً جديداً طرأ على النسق الاتصالي العالمي، وبات لاعباً رئيسياً فيه؛ وهو مفهوم «الحرب الإعلامية اللامتماثلة» Asymmetric Media War.
فقد كان الوسط الاتصالي العالمي السائد قبل التسعينات الفائتة شديد الإخلاص لفكرة السيادة الوطنية على المجال الإعلامي الوطني. وفي هذا الصدد، كانت الدولة قادرة على فرض سيطرة شبه كاملة على نطاقها الاتصالي، خصوصاً في أوقات الحروب والأزمات؛ حين كان باستطاعتها التحكم شبه التام في الرسائل التي تصل إلى جمهورها، وبالتالي فرض نوع من السيطرة على النطاق النفسي والمعنوي للحرب، وتحجيم أثر الرسائل الضارة، سواء كانت صادرة من الداخل أو واردة من الخارج.
وفي تلك الآونة، ظلّت المنازلات الإعلامية منحصرة في الإطار النظامي؛ إذ تتنافس الدول بمنصاتها الإعلامية «التقليدية»، كما تحتاط لأي اختراق بقدرات أمنية تُحكم سيطرتها على الطباعة وموجات الأثير وأصحاب الرأي المخالف والرسائل الوافدة «الضارّة».
لكن ما حدث لاحقاً كان مذهلاً وشديد التسارع. إذ تحوّل النمط الاتصالي العالمي إلى نمط شديد الانفتاح، عندما تضافرت منتجات تكنولوجيا المعلومات الفائقة مع الآليات الإعلامية المستحدثة، وبزغ عهد وسائط «التواصل الاجتماعي»، وباتت يد الدولة الوطنية مغلولة عن السيطرة على نطاقها الاتصالي، فقد تدفقت الرسائل من كل حدب وصوب، وأضحى بوسع أي جهة أو شخص أن يعبّر عن رأيه، وأن يتصل بآخرين، وأن يحشد ويُثوّر ويُحرّض ويُضلّل، أو يصنع اتجاهاً يؤدي دوراً حاسماً في النزاعات والمعارك.
وكما كانت الدولة الوطنية، في الشرق والغرب، حريصة على امتلاك ترسانة إعلامية «تقليدية» لخوض الصراعات النظامية، فإنها، بعدما بُوغتت بالتغيرات الحادة والمتسارعة في المجال الاتصالي، أظهرت الحرص نفسه على امتلاك المنصات غير النظامية، أو محاربة المناوئ منها، أو تطويعه.
لذلك، طوّرت الدولة الوطنية، حسب مكانتها وقدرتها الحيوية، منصات لـ«التواصل الاجتماعي»، أو سمحت بوجودها وازدهارها، ثم سعت إلى تطويعها لخدمة أهدافها الاستراتيجية. وحينما ظهر التصادم بين إرادات مالكي تلك المنصات والسلطة الاستراتيجية، سمعنا عن الضغوط، والاستجوابات، والملاحقات القانونية، واعتقال الشبان «المارقين» المسؤولين عن عمل تلك المنصات، أو التفاوض معهم والضغط عليهم لتحقيق الامتثال المطلوب.
من جانبي، لا أجد في أخبار الصراعات مع «بايت دانس»، أو إيلون ماسك، أو مارك زوكربيرغ، أو جوليان أسانج، أو بافيل دوروف، إلا محاولات من دول كبرى لتطويع تلك المنصات بما يناسب أغراض الدفاع والهجوم الوطنية، وهذا الأمر سيشمل الصين وروسيا، كما سيمتد إلى أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها من الدول.
لا أعتقد أيضاً أن هناك أبطالاً مدافعين عن حرية الرأي والتعبير أو شفافية المعلومات بين هذه الأسماء، بقدر كونهم شباناً طموحين، يبحثون عن وسيلة لتعظيم منصاتهم، وتعزيز ثرواتهم، التي تراكمت غالباً تحت ذرائع الإتاحة والحرية، وليس لأنهم مخلصون لـ«مقتضيات المصالح الوطنية»، أو للقواعد المهنية، والاشتراطات القانونية.