محمد بن سلمان في ضيافة دونالد ترامب
“كما قلت.. أنا قلق” بهذه العبارة أنهى المحلل والكاتب الأمريكي توماس فريدمان، مقاله المنشور أول أمس بصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، محذرًا مما يمكن أن تؤول إليه المنطقة في أعقاب التطورات المتلاحقة التي تشهدها الساحة السعودية خلال الأيام القليلة الماضية، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي.
تصعيد داخلي تقوم به السلطات السعودية ضد عدد من الأمراء ورجال الأعمال، ما بين اعتقالات تارة وتجميد أرصدة تارة أخرى والحديث عن اغتيالات سياسية تارة ثالثة، تعبيدًا للطريق أمام ولي العهد محمد بن سلمان لخلافة والده على كرسي العرش، يقابله تصعيد خارجي من نوع آخر ضد طهران على الساحتين اللبنانية واليمنية، مما وضع المنطقة بأسرها فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي وقت.
الرياض تعلي من صوت النذير وطهران تحذر بينما يجلس الباقون فوق مقاعد الترقب من بعيد في انتظار ما يسفر عنه هذا السجال، ليبقى السؤال: هل تُسقط طموحات ابن سلمان المنطقة في آتون حرب جديدة؟ وما دور أمريكا و”إسرائيل” في دفع ولي العهد الشاب للذهاب إلى هذا المصير؟
الرياض على صفيح ساخن
ما تشهده السعودية منذ ليلة السبت 4 من نوفمبر لم تشهده طيلة عقود طويلة مضت، حيث تتسارع الأحداث بوتيرة بات من الصعب متابعتها فضلًا عن إدراك تفاصيلها وأبعادها، بدءًا من أوامر ملكية مفاجئة أطاحت بأحد أبرز مراكز القوى داخل المملكة على رأسها الأمير متعب بن عبد الله الرئيس الأسبق للحرس الوطني، ثم شكلت على إثرها ما سمي بـ”اللجنة العليا لمكافحة الفساد”، لتعلن بعد ساعات قليلة من تدشينها مجزرة هي الأولى من نوعها سعوديًا حيث شملت اعتقال ما يقرب من 18 أميرًا وما يزيد على 38 من كبار رجال الأعمال، وتجميد أرصدة ما يقرب من 1700 حساب بنكي.
الحملة الأولى من الاعتقالات تضمنت عددًا من الأسماء التي أثارت ضجة ليس داخل السعودية فحسب، على رأسها الأمير الوليد بن طلال صاحب الاستثمارات المتعددة في معظم بورصات العالم، والذي أثار خبر اعتقاله صدمة لكثير من المهتمين بالشأن الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى الأمير تركي بن عبد الله بن عبد العزيز أمير الرياض السابق، ورئيس مجموعة MBC التليفزيونية ورجل الأعمال البارز وليد الإبراهيم، ورئيس ومؤسس البنك الإسلامي رجل الأعمال الكبير صالح كامل واثنين من أبنائه، واللواء تركي بن عبد الله بن محمد الكبير، ورئيس الديوان الملكي السابق خالد التويجري.
ورغم تجاوز ما حدث سقف التوقعات فإن الوضع يبدو أنه لا يزال يحمل جديدًا، حيث طالت حملة الاعتقالات عددًا آخر ممن يُشك في ارتكابهم تجاوزات، بينهم أشخاص تربطهم صلات بأسرة ولي العهد ووزير الدفاع الراحل سلطان بن عبد العزيز الذي توفي عام 2011 بحسب رويترز.
اعتقال الوليد بن طلال أصاب السوق العالمية بما يشبه الصدمة
ابن سلمان يصعد
الأحداث الساخنة لم تقتصر على الداخل السعودي فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى تصعيد من نوع آخر، هذه المرة مع إيران وبشكل مباشر، حمل بين ثناياه لغة تهديد وإنذار بالحرب في واحدة من المرات التي قلما تصعّد فيها الخارجية السعودية من لهجتها العدائية ضد طهران.
جاء سقوط الصاروخ الباليستي – إيراني الصنع – بعيد المدى من طراز “بركان إتش – 2” الذي استهدف مطار الملك خالد شمال الرياض قادمًا من اليمن، ليلة السبت 4 من نوفمبر بعد ساعات من إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من منصبه من قلب الرياض، ليسكب الزيت على النار لتشتعل الأجواء السعودية الإيرانية مجددًا.
طالت حملة الاعتقالات عددًا آخر ممن يُشك في ارتكابهم تجاوزات، بينهم أشخاص تربطهم صلات بأسرة ولي العهد ووزير الدفاع الراحل سلطان بن عبد العزيز الذي توفي عام 2011
وعلى الفور قررت المملكة إغلاق جميع منافذها الحدودية البرية والبحرية والجوية مع الجارة اليمنية، لتبدأ جولة التصعيد ضد إيران كما جاء على لسان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، والذي قال إن السعودية تحتفظ بحق الرد في الشكل والوقت المناسبين، على التصرفات العدائية ضدها من السلطات الإيرانية، مضيفًا أن المملكة لن تتسامح مع الإرهاب ورعاته، وتابع: “الإرهاب الإيراني يستمر في ترويع الآمنين وقتل الأطفال وانتهاك القانون الدولي، وكل يوم يتضح أن مليشيا الحوثي أداة إرهابية لتدمير اليمن”.
الأمر تجاوز وزير الخارجية إلى ولي العهد الذي قال إن ضلوع إيران في تزويد المليشيات الحوثية التابعة له بالصواريخ يعد عدوانًا عسكريًا ومباشرًا وقد يرقى إلى اعتباره عملًا من أعمال الحرب ضد المملكة، مضيفًا خلال مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون أن مد إيران بالصواريخ لحلفائهم في اليمن يُعد حربًا على المملكة.
وطهران تحذر
لم تتأخر طهران في الرد على تهديدات الرياض كثيرًا، لكنه هذه المرة لم يأت من الخارجية الإيرانية بل من الرئيس حسن روحاني الذي حذر السعودية مما أسماه “قوة ومكانة إيران” حتى لو وقفت أمريكا في صف المملكة لتشكيل جبهة دولية ضد بلاده.
روحاني في كلمته أمس أمام مجلس الوزراء الإيراني قال إن السعودية تدرك مكانة وقوة إيران في المنطقة، محذرًا إياها من سلوكها التصعيدي إزاء بلاده، معتبرًا أن هناك دولًا أقوى من السعودية لم تستطع مواجهة إيران ومنها أمريكا وأذنابها، على حد وصفه.
وفي السياق ذاته اتهم بعض الأطراف الغربية بالتخطيط لمؤامرة جديدة للضغط على إيران، وهي التي حاولت محاصرتها من خلال مسألة النووي، وتحاول الآن خلق فتنة إقليمية، حسب قوله، كما أشار للعلاقات التي وصفها بالأخوية بين الشعبين الإيراني والسعودي، لكنه قال إن بعض الحكومات تريد بيع سلاحها ونهب أموال المنطقة، لذا تسعى جاهدة للحفاظ على بقاء أوضاعها ملتهبة، محذرًا من أن التقارب مع أمريكا و”إسرائيل” مقابل معاداة إيران خطأ استراتيجي.
هرولة ولي العهد نحو استبدال الوهابية كمصدر لتأييد شرعية حكمه، بقومية سعودية أكثر علمانية، تقوم على توجه يعادي إيران/الفارسية/الشيعية، قد يأخذه إلى بعض الأماكن الخطرة
الرئيس الإيراني اعتبر أنه على السعودية ألا تخلق مشاكل في المنطقة لتتجاوز أزماتها ومشاكلها الداخلية، معلنًا في الوقت نفسه أن طهران لا تعارض تعزيز العلاقات مع دول الجوار بما فيها المملكة، مطالبًا إياها بإيقاف عدوانها على اليمن وهو ما سيقابله اليمنيون بإيجابية حسب رأيه، محملًا السعودية مسؤولية الضغط على سعد الحريري لتقديم استقالته من رئاسة الوزراء، متسائلًا: “لماذا تتدخلون في الشأن الداخلي لحكومة لبنان؟ لم نشهد في التاريخ أن بلدًا يتدخل بهذا الشكل في شؤون بلد آخر ويجبر مسؤوله على الاستقالة، هذا غير مسبوق في تاريخ المنطقة”.
وردًا على اتهامات الرياض بضلوع طهران بالوقوف وراء صاروخ ليلة السبت على مطار الملك خالد، رفض ممثل إيران لدى الأمم المتحدة غلام علي خوشرو تلك الاتهامات في رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، قائلًا إن لا أساس لها من الصحة، معتبرًا ما تفعله السعودية محاولة ترمي لإبعاد الأنظار عن ممارساتها في اليمن.
الرئيس الإيراني حسن روحاني يحذر الرياض
تحريض أمريكي إسرائيلي
في مقاله بـ”نيويورك تايمز” تطرق توماس فريدمان إلى محاولة تفسير ما يحدث في السعودية خلال الأيام الـ6 الماضية، مشيرًا “لفهم الانقلاب الذي يحدث في المملكة العربية السعودية اليوم، عليك أن تبدأ بأهم الحقائق السياسية بخصوص هذا البلد: إن القوة السياسية المهيمنة هناك على مدى العقود الـ4 الماضية، لم تكن الإسلاموية أو الأصولية أو الليبرالية أو الرأسمالية أو الداعشية.. بل مرض ألزهايمر”.
الكاتب هنا ذهب إلى أن ما يحدث كان ضرورة حتمية في ظل ما كانت تعاني منه المملكة من سيطرة ملوك كبار السن لا يقدرون على مسايرة التطورات المتلاحقة، فسلمان بن عبد العزيز يبلغ من العمر 81 عامًا، وخلف بدوره ملكًا توفي عن عمر 90 عامًا (الملك عبد الله بن عبد العزيز)، والذي كان قد حل محل ملك توفي في الـ84 من عمره (الملك فهد بن عبد العزيز)، ومن ثم فإن هذه العقلية لم تعد صالحة بتاتًا على حد قوله، لافتًا إلى أن 70% من السعوديين تحت سن الـ30 عامًا، منهم نحو 25% عاطلون من العمل، لذا كان الدفع بمحمد بن سلمان ذو الـ32 عامًا خيارًا ضروريًا.
“هناك دول أقوى من السعودية لم تستطع مواجهة إيران، ومنها أمريكا وأذنابها”
غير أنه استدرك قائلًاً: “لكن هنا الآن ما لا أعرفه على وجه اليقين: أين يقف اندفاعه – محمد بن سلمان – لإجراء إصلاح سريع في البلاد، وأين يبدأ اندفاعه الاستبدادي للاستيلاء على كل السلطة؟ فالرجل يعيد تشكيل الدولة السعودية من ائتلاف عائلي واسع تتناوبه 7 أسر رئيسية ويتم فيه تقاسم السلطة واتخاذ القرارات بالتوافق، إلى دولة يحكمها خط أسرة واحد”، معلقًا على ذلك بأن المملكة لم تعد “المملكة العربية السعودية” بل أصبحت “مملكة سلمان العربية”.
إلا أن هرولة ولي العهد نحو استبدال الوهابية كمصدر لتأييد شرعية حكمه، بقومية سعودية أكثر علمانية، تقوم على توجه يعادي إيران/الفارسية/الشيعية، قد يأخذه إلى بعض الأماكن الخطرة، هكذا أضاف فريدمان الذي لفت إلى أن ابن سلمان، ولمواجهة إيران، دفع رئيس الوزراء اللبناني السني سعد الحريري للاستقالة يوم السبت الماضي خلال زيارته للرياض، متهمًا إيران وحلفاءها الشيعة بجعل لبنان غير قابل للحكم، فضلًا عن تلقي بلاده هجومًا صاروخيًا من اليمن.
واختتم الكاتب الأمريكي مقاله بالحديث عن تحريض أمريكي إسرائيلي لدفع ولي العهد الشاب نحو الدخول في آتون حرب في المنطقة، سواء كان ذلك داخليًا من خلال صراع العروش على الكرسي عبر المذابح المتتالية لأعضاء الأسرة المالكة، أو خارجيًا عن طريق التصعيد مع طهران عبر بوابة لبنان واليمن، قائلًا: “أولئك الذين يحثون ابن سلمان على أن يكون أكثر عدوانية في مواجهة إيران (التي يحتاج نفوذها الإقليمي الخبيث إلى موازنة)، مثل الولايات المتحدة وترامب وجاريد كوشنر وبنيامين نتنياهو، سيدفعونه إلى حرب في الخارج وفي الداخل في الوقت ذاته، ويمكن حينها أن نرى السعودية والمنطقة كلها تدور خارج نطاق السيطرة في الوقت ذاته”، خاتمًا بالتحذير “كما قلت.. أنا قلق”.
هناك إجماع في واشنطن على أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كان يخطط من خلال عملية التطهير التي قام بها، واعتقاله أمراء وأثرياء البلد، لتعزيز سلطته قبل خروج والده من المشهد
لم يكن فريدمان هو الكاتب الوحيد الذي ألمح إلى وجود تحريض أمريكي إسرائيلي وراء هذا التصعيد، لكن دوف زاخيم المسؤول السابق في الإدارة الأمريكية كان له نفس الرأي تقريبًا، مشيرًا إلى أن الثلاثي جارد كوشنر ومحمد بن سلمان وبنيامين نتنياهو، يخطط لأمر ما.
حديث عن ضلوع كوشنر فيما يحدث في السعودية
زاخيم في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” قال: “هناك إجماع في واشنطن على أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كان يخطط من خلال عملية التطهير التي قام بها، واعتقاله أمراء وأثرياء البلد، لتعزيز سلطته قبل خروج والده من المشهد”، معززًا ذلك بأن جارد كوشنر صهر ومستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – صاحب الموقف العدائي تجاه طهران – كان في الرياض قبل فترة في زيارة غير معلنة تعد الثالثة له، والتقى مع ولي العهد، وعلق بشكل جيد على التطورات الأخيرة في الرياض.
المجلة الأمريكية في تقريرها ذهبت إلى أن استقالة رئيس الوزراء اللبناني كانت بإيعاز من الرياض، خاصة بعد التمدد الإيراني في المنطقة خلال الفترة الأخيرة، “فإيران تزود الحوثيين على الحدود الجنوبية للسعودية بالصواريخ، وتسيطر على العراق شمالًا منها، وتؤدي إيران دورًا في زعزعة استقرار البحرين، وربما فعلت الأمر ذاته في المناطق الشرقية التي تعيش فيها الأقلية الشيعية، وإن لم يكن هذا كافيًا فإن إيران حصنت نفسها في دمشق وبيروت”.
“أولئك الذين يحثون ابن سلمان على أن يكون أكثر عدوانية في مواجهة إيران (التي يحتاج نفوذها الإقليمي الخبيث إلى موازنة)، مثل الولايات المتحدة وترامب وجاريد كوشنر وبنيامين نتنياهو، سيدفعونه إلى حرب في الخارج وفي الداخل في الوقت ذاته”
كما ألمح التقرير إلى احتمالية زيارة ولي العهد لتل أبيب، بحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية، وأوضح أنه حتى ولو لم يضع قدمه في مجمع (هاكيرا) مقر الوزارة فلا مجال للشك أنه فتح علاقات واسعة مع الإسرائيليين الذين ينظرون إلى تهديد إيران بالطريقة التي يراها ذاتها، ولم يكن ابن سلمان وحيدًا في هذا الموقف، حيث كان جارد كوشنر يتحدث مع الرئيس ترامب، الذي منحه ملف العملية السلمية بين “إسرائيل” والفلسطينيين، وهو ضيف مرحب به في مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
واختتم المسؤول الأمريكي قراءته للمشهد بتوجيه عدة تساؤلات على رأسها: هل أعطى كوشنر الضوء الأخضر لابن سلمان للقيام بمخططه الانقلابي ضد أبناء أسرته؟ وإن كان الأمر كذلك فإلى أي مدى ستدعم الولايات المتحدة – وتحديدا البيت الأبيض – السعودية في حال اشتدت حرارة المواجهة مع إيران؟ أو هل ستؤدي “إسرائيل” دور الوكيل عن ترامب؟ معلقًا على هذه الأسئلة بقوله: “ومع الرئيس ترامب وولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بات كل شيء واردًا”.