الحرب على غزة أثارت لغطا حول مصطلح معاداة السامية

1

 المفهوم حديث المنشأ ويرتبط بحقبة محددة من تاريخ أوروبا ولا يزال محل نقاش

مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة 

لوحة من معرض “دوكيمانتا” الألماني حول اللاسامية (خدمة المعرض)

مع تصاعد الحرب على غزة وما يرافقها من أعمال عنف وقتل ودمار وتصريحات وتظاهرات ومسيرات احتجاجية حول العالم، يعود للظهور في أوروبا وأميركا مصطلح معاداة السامية، فما هي معاداة السامية؟ ومتى ظهرت؟ وما هي الظروف التي أدت إلى نشأتها؟

يُعتبر الصحافي الألماني فريدريش فيلهلم أدولف مار (1819- 1904) أول من صاغ هذا المصطلح مستخدماً إياه في سياق وصفه لموجة العداء التي تعرض لها يهود الشتات في أوروبا أواسط القرن الـ 19، مما يعني أن المصطلح نشأ في أوروبا للحديث عن اليهود الأشكنازيين الذين استقروا وسط الأمم الأخرى. وقد ورد التعبير كذلك في كثير من النصوص التي وقعها العالم والمستشرق اليهودي موريتز شتاينشنايدر في إطار رده على وجهات نظر المفكر والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان المتعلقة بنظريته في تراتبية الأعراق، وقوله بأن العرق السامي الذي ينتمي في جزء كبير منه إلى عائلات لغوية أدنى من العرق الآري، مشيراً به إلى مجموعة من الشعوب بما فيها العربية، مما استدعى المناظرة الشهيرة بينه وبين المفكر جمال الدين الأفغاني.

وورد المصطلح في كتابات المؤرخ والمنظر السياسي الألماني هاينريش فون ترايتشكه (1834- 1896) كمرادف لكلمة “يهودي”، وذلك على النقيض من استخدام رينان له.

أشكال العداء

نجمة-داوود.jpg

شعار نجمة داود التي انتشرت على جدران باريسية أخيراً (ا ف ب)

ويشير بعض المؤرخين إلى أن واضعي هذا المصطلح أرادوا به التعبير عن الاختلاف الجذري بين ما يحصل من أفعال ويقرأ من أقوال في أوروبا القرن الـ 19 وبين الأشكال التاريخية السابقة من العداء تجاه اليهود واليهودية منذ ظهور المسيحية وجدلية علاقة الكنيسة باليهود، كطردهم من إنجلترا عام 1290 ومن إسبانيا عام 1492، و”أحداث القوزاق” في أوكرانيا و”قضية دريفوس” في فرنسا وتحول معاداة السامية إلى مذهب سياسي ألهم قوانين مثل “قوانين حكومة فيشي” عام 1940.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن المصطلح يعبر بصورة أساس عن الكراهية أو التمييز الذي طال اليهود في أوروبا والذي يتغذى على مجموعة أحكام مسبقة، كافتراض اليهود أنفسهم شعب الله المختار المتفوق على سائر الشعوب الأخرى، شعب يظهر اهتماماً زائداً بالمال ويتآمر أفراده في ما بينهم ضد الآخرين بغية السيطرة على العالم.

وكان من نتيجة هذه الاعتقادات المعادية لليهود إقامة الـ “غيتوات” في مدن وبلدات أوروبا الشرقية، ثم ظهور المعتقلات والإبادة الجماعية في فترة الحرب العالمية الثانية في ألمانيا النازية، بعد أن أضيف إليها بعد أيديولوجي مع تشكل أحزاب عنصرية في كل من ألمانيا وفرنسا والنمسا تقول بالنزعة القومية، والتي ما إن تسلمت الحكم حتى سنت قوانين شرعت فصل اليهود عن باقي السكان وسمحت بتدمير ممتلكاتهم وأماكن عباداتهم، مما يعني أن المصطلح حديث المنشأ ويرتبط بحقبة تاريخية محددة من تاريخ أوروبا.

أما في العالم العربي فقد عاش اليهود من “السفرديين” و”المزراحيين” في مدن عدة، ولم يتعرضوا بالإجمال إلى مضايقات كبرى إلا في فترات قليلة، إذ كانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي وأهل ذمته. غير أن إعلان قيام دولة إسرائيل إثر النكبة عام 1948 وما صاحبها من مجازر وتهجير للفلسطينيين، أدى إلى ظهور مشاعر معادية تجاههم من دون أن يكون لها طابع الكراهية العرقية والدينية، ولعل هذه المشاعر تندرج في إطار رفض العرب للمشروع الصهيوني وإنشاء وطن قومي يهودي على حساب الفلسطينيين بمباركة أوروبية، حاولت من منظار كثيرين التكفير عن الأخطاء التي ارتكبتها أوروبا بحق اليهود، مؤسسة بذلك ظلماً جديداً لم يتنبه له كثيرون أو جرى التغاضي عنه بوعي ومعرفة.

تبعات سياسية

Ernest_Renan_1876-84.jpg

المؤرخ الفرنسي إرنست رنان من أوائل المتطرقين إلى السامية (صفحة رنان – فيسبوك) 

لكن هذا المصطلح عَرف بعيد الحرب العالمية الثانية تحولاً دلالياً، إذ بدأ الأوروبيون يتنصلون من تبعاته ويطلقونه مع الأميركيين على كل من ينتقد سياسة إسرائيل والإيديولوجية الصهيونية، ولا سيما على العرب والمسلمين بسبب الصراع القائم على الأراضي الفلسطينية، علماً أن كثيراً من الأوروبيين لا يزال يتلفظ اليوم بعبارات كارهة لليهود، ويخط على جدران منازلهم ومدارسهم ومدافنهم ومؤسسات مجتمعاتهم ومواقع التواصل الاجتماعي، كتابات ضدهم أو يتعرض لبعضهم جسدياً. ولعل أسوأ هذه الاعتداءات ما يحصل اليوم في فرنسا حيث يتعرض اليهود لمضايقات كثيرة، على رغم وجود قوانين تعاقب معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، بالطريقة نفسها التي تعاقب بها التمييز العنصري وكراهية الأجانب، وعلى رغم محاولة أحزاب اليمين المتطرف المعروفة بعدائها للسامية تمويه برامجها السياسية في سبيل كسب المؤيدين.

ومن هذه الزاوية نفهم مشاركة مارين لوبان وحزب “التجمع الوطني” المعروف بماضيه المعادي للسامية في 12 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في المسيرة الكبرى التي دعا إليها مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية الفرنسية، والتي تعتبر بمثابة خطوة في استراتيجية التطبيع التي ينتهجها هذا الحزب، مما جعله يتمتع بصورة متزايدة، باعتراف الطبقة السياسية الفرنسية. إلا أن بعض الشتائم لم تحجب الصورة التي ستبقى من هذا الحدث، وهي التصفيق الحار لمارين لوبان لحظة وصولها للمشاركة في هذه المسيرة التي أراد لها منظموها أن تكون بعيدة من السياسة وذات طابع مدني ومواطني.

وبما أن العداء للسامية لا يزال يستهدف الأشخاص الذين ينتمون أو يُفترض أنهم ينتمون إلى الجالية اليهودية، انطلاقاً من اسمهم الأول أو اسم عائلتهم أو ممارساتهم الدينية أو طرائق لبسهم، فإن هذه الممارسات والشتائم التي يمكن العثور عليها على حد السواء، في منشورات وكتابات جدارية وملصقات وقصص مصورة ومواقع إنترنت، أعادت إحياء أفكار لا تزال راسخة في عقول كثير من الفرنسيين. وترافق هذه الممارسات الأحداث الدولية والحرب القائمة على أرض غزة، علماً أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال خلط الانتقادات لسياسات الدول أو الرد على الأحداث بتظاهرات عنصرية تضر بالأفراد.

اقرأ المزيد

وتقول الإحصاءات التي تهتم برصد مظاهر معاداة السامية في المجتمع الفرنسي إن هذه الممارسات تزداد باطراد بين عامة الفرنسيين بعد النجاحات الانتخابية التي حققها حزب مارين لوبن، وتترافق حدتها بازدياد حدة الاضطرابات القائمة بين إسرائيل والفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية وحتى طوفان الأقصى. وهذا ما حمل منذ فترة بعض اليهود الفرنسيين على الهجرة إلى إسرائيل، وقد تجاوز عددهم عدد اليهود الأميركيين المهاجرين.

ومن المعروف أن فرنسا أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهي على رغم اعترافها بالكيان الصهيوني لم تعترف بالقدس عاصمة للدولة، وتنتقد سياسة الاستيطان وقضم الأراضي في الضفة الغربية.

 وباختصار فإن معاداة السامية اليوم في فرنسا تتخذ أبعاداً جديدة وتثير انقسامات بين الطبقة السياسية، ولا سيما بعد الجدال حول اعتبار كل معاد للصهيونية معاد للسامية. وهذا ما دفع بدومينيك فيدال إلى أن يأسف للخلط بين هذين المفهومين، قائلاً إن اعتبار رفض نظرية “تيودور هرتزل” معاداة السامية، معناه اعتبار ملايين اليهود الذين لا يريدون العيش في فلسطين المحتلة معادين للسامية، واصفاً هذا الخلط بالغباء والجهل بالتاريخ، ومشيراً إلى البعد الترهيبي لهذا الخلط تجاه كل من يجرؤ على انتقاد إسرائيل، ولا يزال الجدال محتدماً بين مؤيد ومعارض لهذا التحديد، واللغط كبير داخل الأوساط الثقافية والسياسية في البلاد.

التعليقات معطلة.