سعود بن علي الحارثي
لا أحد ينكر بأنَّ الغرب، الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة وأوروبا، قادت العالم وفرضت عليه سياساتها وثقافتها وعولمتها وقِيَم رأسماليَّتها، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وما زالت، مع انضمام دول أخرى إلى التحالف، اليابان وكوريا الجنوبيَّة وأستراليا، والصين من جانب آخر، منافسًا على الأسواق، وفي فضاء البحث والابتكار والتكنولوجيا والتصنيع باحثًا عن مكانة تليق بالقوَّة الصَّاعدة في أسواق العالَم… وبأنَّ ثورات الغرب العلميَّة المتلاحقة، الصناعيَّة والتقنيَّة والفضائيَّة والطبيَّة والوراثة والذَّكاء الاصطناعي، أحدثت تحوُّلات عميقة في بنى وهياكل المؤسَّسات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وأسقطت مسلَّمات وثوابت بُنيَت عليها أعراف وقِيَم، نُظُم ومعتقدات وتقاليد من يفرط فيها ويخرج عن هيمنتها ويتحرر من قيودها ويسخر منها، قبل تمدُّد وانتشار واكتساح منتجات هذه الثورات يصنَّف ضِمن الفئة المارقة الخارجة عن الثوابت الَّتي تأسَّست وتجذَّرت على مدى قرون وأسهمت في البناء والوحدة والترابط وصلابة الهُوِيَّة والالتفاف حَوْلَها، ومن المسيئين إلى ثقافة وعقائد المُجتمع. وبالمختصر المفيد أحدثت تلك الثورات العلميَّة زلزالًا هائلًا لا يزال بركانه يدفن أخرى معه من تلكم العادات والمساقات والمفاهيم والتصنيفات الَّتي سارت عليها المُجتمعات ردحًا من الزمن، لِيشيدَ في المقابل، أبنية وصروحًا وأفكارًا وتصورات وسلوكيَّات جديدة، ومقولة أو نظريَّة، مَن لم يتطور ولا يؤمن بالتحوُّلات والطفرات والاكتشافات العلميَّة الَّتي يشهدها العالم، وقيَّد نفسه بتقاليد الماضي وثوابت الأصالة، متجاهلًا المعاصرة بتبدُّلاتها وتغيُّراتها وثوراتها، ولم يسعَ ويجتهد وينطلق للإسهام في الحضارة العلميَّة الإنسانيَّة، فسوف يسحق تحت ركام الزلزال، تحوَّلت إلى قانون وثابت من ثوابت الحياة. والكُلُّ متَّفق كذلك، بأنَّ الإنسان في العصر الحاضر ينعم بإنجازات ورخاء وازدهار هذه الثورات العلميَّة الغربيَّة، في مجالات الطِّب والأجهزة والتقنيَّات الَّتي تشخص أمراضنا وتصف الدواء المناسب بكُلِّ دقَّة، وشبكات الاتصالات والنقل والكهرباء والمياه، ووسائل وبرامج وتقنيَّات التواصل الَّتي تقدِّم لنا المعلومات بسرعات عالية، وتنجز معاملاتنا وتوفِّر لنا الجهد، وما نحتاجه من مشترياتنا ومستلزماتنا، من سلع وبضائع وكماليَّات، وتحويل الأموال والكثير الكثير ممَّا يستحيل تعداده وتفصيله في مقال. ومهما اختلفنا مع الغرب في ازدواجيَّة سياساته، وانحراف قِيَمه ومُثله، وعدَّدنا مساوئه وحمَّلناه تبعات تخلُّفنا وضعفنا، وتمزُّق دولنا وماضيه الاستعماري المقيت والبغيض، وأثبتنا تجاوزاته في مجال حقوق الإنسان، وفساد أنظمته فيما يتعلق بدعمها المطلق للدولة «الإسرائيليَّة»، وتجاهله للحقوق الفلسطينيَّة المشروعة، وما ترتكبه «إسرائيل» ـ ثمَّ ـ من مذابح وسفك للدماء وعبثٍ للقِيَم والأخلاق وروح القانون وانتهاكات غير مسبوقة في كُلِّ ما يتعلق بالحقِّ الإنساني والهُوِيَّة والتراث والآثار والمقدَّسات المحميَّة ـ كما يفترض ـ من القانون العالمي ومؤسَّساته والقوى الكبرى الَّتي تتغنى بحقوق الإنسان وتدافع عنه باستثناء «إسرائيل» المعفيَّة من كُلِّ تبعاته… ـ ولستُ هنا في مجرى التبرير أو إدانة السياسات الغربيَّة، ففضاؤنا الثقافي والأدبي ودراساتنا وإصدارات كتَّابنا والأوراق المقدمة في مئات الندوات والفعاليَّات ووسائل وقنوات التواصل… تنوء بهذا الحمل الثقيل، ـ هذه الخلافات العميقة الَّتي تكبر وتتسع وتتضخم يومًا بعد الآخر، بَيْنَ الشعوب العربيَّة والغرب، وتحوَّلت بعد التطهير العِرقي الَّذي مارسته «إسرائيل» بحقِّ الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر، والمساندة الكاملة الَّتي وجدتها حكومة «تل أبيب» من الولايات المُتَّحدة وبريطانيا وألمانيا خصوصًا، إلى طوفان من الكراهية والبغض والحقد، وسيل من الشتائم والأدعية الَّتي ترى في الغرب عدوًّا لدودًا يستحق المقاطعة الكاملة معه… لا ينبغي أن تنسيَنا من جانب آخر، أنَّنا كأُمَّة عربيَّة، أصبحنا عالة، ونتحمل العبء الأكبر والمسؤوليَّة من الدرجة الأولى لأسباب شرحَها وفنَّدها وقدَّم لها واستعرضها عباقرة الأدب والفكر والإعلام العربي، على مدى عقود، وبعضهم أصيب بما سُمي بـ»الصدمة الحضاريَّة» عندما زاروا فرنسا واليابان وبريطانيا وألمانيا قَبل قرن يزيد وينقص، عندما اكتشفوا التقدُّم العظيم والفجوة الهائلة بَيْنَنا وبَيْنَ الغرب، فأصدروا الكتُب المنبِّهة والمحذِّرة والمشخِّصة، الَّتي لم تحدث أيَّ تأثير على فكرنا ونُظُمنا التعليميَّة والسياسيَّة، فأصبحنا اليوم نعتمد اعتمادًا شِبه كامل على هذا الغرب في كُلِّ ما نحتاجه من الإبرة إلى الطائرة، وفي تدريب وتسليح جيوشنا، وفي توفير جميع البضائع والسلع والأدوية والتقنيَّات والأجهزة والطائرات والسيَّارات وقطع الصيانة.. نحتاج إلى المعلومات وإلى التعرف على نتائج الدراسات والمختبرات والتجارب الَّتي تجرى في مختبراته وجامعاته، بل ونتمنَّى لأولادنا أنْ يدرسوا في جامعات الغرب، وإن وجدوا فرصًا وظيفيَّة وحصولًا على الجنسيَّة، فالفرحة والنجاح سوف يكتملان، كما أنَّ البرامج والحسابات والتقنيَّات والمنصَّات والأجهزة الَّتي تنشر تنديداتنا بسياسات الغرب وتوثِّق انتقاداتنا الحادَّة وهجومنا وعبارات القذف والشَّتم، هي من ابتكارات الغرب، ويَعُود كُلُّ ما ننشره بالمال على شركاته… أليسَتْ هذه هي الحقيقة؟ أم أنَّ الصواب جانب ما كتبت وضخمت واقع اعتمادنا على الغرب؟. بل حتَّى نُظُم الغرب المصرفيَّة والتعليميَّة و»الديمقراطيَّة»، والانتخابات الَّتي تجدِّد رؤساء الدول فيها، وحُريَّات التعبير وقوَّة الرقابة والقضاء، وقصص ونماذج استقالة المسؤولين من مناصبهم لأدنى هفوة وخطأ ـ استقالة مجموعة من وزراء الحكومة الهولنديَّة قَبل أسابيع قليلة، احتجاجًا على استمرار تعاونها مع «إسرائيل»، مثالا ـ وبساطتهم وفقًا للصوَر الَّتي تظهرهم يتفسحون في المتنزهات ويركبون الدراجات والقطارات مع المواطنين العاديين، والمظاهرات والتحركات المدنيَّة الواسعة لنصرة فلسطين، تروق كثيرًا للمواطن العربي الَّذي يمتدحها ويضعها مثالًا ونموذجًا لفوارق الحكم بَيْنَنا وبَيْنَ الغرب، وبأنَّ حكوماتنا أخذت بالشكل والقشور وطبَّقته، لإسكات صوت المواطن في الداخل، وإقناع الغرب أنَّنا نمارس حكمًا ديمقراطيًّا. فلماذا لم نسهم نحن العرب، في هذا التقدم… بدلًا من إهدار الوقت في التنظير والحكي والشتم وتكرار وتوليد نصوص وكتابات ومقالات وآراء وملاحظات وصوَر ألِفناها وأصابنا الملل منها وكأنَّها أصبحت عادة أخرى سيئة من عادات العرب، فيما الواقع المُر والمُحبط والتعيس وخيباته تتمدَّد وتتَّسع وتزداد بؤسًا وتعقيدًا، وغدنا يأتي أسوأ من يومنا ضعفًا وقلَّة حيلة وتمزُّقًا وتشرُّدًا، واتِّساع الفجوة والثقة بَيْنَ النُّظُم الحاكمة والشعوب العربيَّة…؟ لماذا ننتظر من الصين أو روسيا ونأمل بفرح، أن تحلَّا محلَّ أميركا في القوَّة والهيمنة ظنًّا منَّا أنَّهما سوف تقدِّمان لنا حقوقنا على طبقٍ من ذهب وتدافعان عن أراضينا المستعمرة؟ فيما الحقيقة تقول إنَّ علاقاتهما التجاريَّة والسياسيَّة والمشتركات بَيْنَهما و»إسرائيل» ليسَتْ بأقلّ عن الغرب؟ لماذا لم نستفد من التاريخ عندما وضعنا ثقتنا وقوَّتنا في يد بريطانيا ضد الدولة العثمانيَّة، وفي ألمانيا ضد الغرب، وفي الاتحاد السوفييتي المعادي للرأسماليَّة؟ لماذا لا نعي بأنَّ الحقوق العربيَّة، لا تستعاد ولن تستعاد إلَّا بالقوَّة والوحدة وتقدُّم العرب واللّحاق بالركب الحضاري؟ وأنَّ الجيوش الَّتي تحرك أسلحتها بمنتجات الذَّكاء الاصطناعي لا تُهزم بالسيف والخيول؟ أعي بأنَّ واقعنا هذا، الَّذي تدفَّقت في سبيل تشخيصه وتحليله ومحاولة تغييره، الأحبار ونُشرت حَوْلَه ملايين الأوراق تضمنت أفكارًا وحلولًا وتوصيات مخلصة لتحقيق نهضة الأُمَّة العربيَّة، ومحاولة جمع كلمتها وتوحيد مشروعاتها النهضويَّة… لم أضِفْ عليه جديدًا بمقالي المتواضع، سوى تحقيق الرغبة في الكتابة عن هذا الملف الشائك، وتقديم رأيي ولو بكلمة تعبيرًا عن هذه الفوضى العارمة والعموميَّات الملتبسة واللَّغط المسبِّب للجهل والتخلف أكثر من كونه مسهمًا في الوعي والمعرفة، الَّتي تشهدها وسائل التواصل، ولملمة وحصر كُلِّ ذلك السيل العارم في مقال موجز ملخَّص… ويظل الأمل يقظًا نشطًا حالمًا بمستقبل عربي تشرق نهضته قريبًا، فالحياة بدون الأمل موت، وعسى أن تحدثَ فينا صدمة اليمين المتطرف في «تل أبيب» تحوُّلات مزلزلة لصالح نهضة عربيَّة شاملة…
سعود بن علي الحارثي