خالد عزب
دأب كثيرون على دراسة التاريخ الإسلامي بوصفه تأريخاً للسلطة. من هنا، نرى أن تاريخ الدول هو الحاكم في الكتابة التاريخية عند المسلمين، فتارة نجد الدولة الأموية وأخرى العباسية… إلخ، لكننا ننسى المجتمع الذي تحكمه هذه الدول والأفراد الذين يكونون هذا المجتمع.
هذه التعمية ليست إلا محاولة لقراءة المشهد التاريخي كما رواه مؤرخو السلطة، لكن حتى هذه الروايات عبر العصور حملت في داخلها رؤى أخرى نقرأها بين السطور. هذا ما يجعلني أستحضر مشاهد إخضاع الجمهور للسلطة أياً كانت، إذ كان هناك مَن يبرر هذا، وهؤلاء هم الفقهاء العاملون مع السلطة. فنرى كتابات السياسة الشرعية تتحول إلى أداة لنصيحة الملوك ورسم طرق الحكم حتى عند من اعتبرهم البعض متمردين كابن تيمية وابن القيم الجوزية، فنحن لدينا حاكم ورعية، ثنائية نراها مستمرة عبر العصور، ولا نرى من يتحدث عن واجبات الحاكم تجاه الرعية وقصور دوره تجاهها إلا على استحياء شديد.
سلطة الخضوع هنا نشأت من اضطرابات القرن الأول الهجري الذي يعده البعض العصر الذهبي للإسلام، فالصراع الذي أدى إلى مقتل عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب، ثم صراع الأمويين مع الزيديين، استنزف المسلمين، ما انعكس سلباً على رؤية علماء السياسة الشرعية لفكرة السلم المجتمعي، إذ صار حفظ دماء المسلمين عندهم مقدماً على كل شيء، فوجدنا الجميع يرى أن لا فائدة من الصراع مع السلطة الحاكمة لأجل حكم عادل أو حقوق. هذا كله قاد إلى وجود مسافة بين السلطة والمجتمع والأفراد، فهنا المجتمع بهذه المسافة يأخذ من حصة الدولة وظائف يراها ضرورية بالنسبة إليه، فالرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية والتعليم، وظائف قام بها المجتمع بعيداً مِن الدولة. هنا المجتمع يبني مؤسسة الوقف وينمي عبر العصور آليات هذه المؤسسة التي شيدت منشآت التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وهو أوجد في المقابل منشآت اقتصادية أو أراضي ذات ريع يمول عائدها دور هذه المنشآت. لذا، فنظرة هذه المجتمعات إلى السلطة أنها أداة للحماية والأمن في صورة أساسية، وإن كانت هذه الأداة تسبب الأذى للمجتمع حين تحاول إجباره على شيء ما، أو حين يحدث صراع بين فرقائها على نحو ما كان يحدث في القاهرة خلال العصر العثماني. لذا، فالمجتمع لم يكن يعنيه مَن يحكم المماليك أو العثمانيين أو الفاطميين أو السلاجقة أو غيرهم، وإن حدث صدام، كان المجتمع يحاصر مقر الحكم، أو يعزل الوالي كما حدث في مصر في العصر العثماني، بل حتى في مدينة كرشيد في مصر سجل الأهالي فساد واليها وعزلوه.
هنا نقف عند مقولات البعض التي تصل إلى حد المثالية، ما يخلق عالماً غير واقعي في مخيلة الكثيرين. فكما كانت الدولة فاسدة متجبرة، كان المجتمع فيه فساد، فنحن أمام مجتمعات بشرية فيها الصالح والطالح، ونرى هذا في نقد ابن الحاج في كتابه المدخل لكل من ممارسات السلطة وفساد المجتمع، وكذلك السبكي، معيد النعم ومبيد النقم، وغيرهما الكثير، أي أنه كان هناك من يراجع الجميع ليقيم العدل والمساواة اللذين هما الهدف الأسمى للإسلام.