د. محمد علي السقاف* كاتب يمني
وأخيراً التقى وزيرا خارجية البلدين الأمير فيصل بن فرحان وزير خارجية السعودية، ونظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان، في بكين، يوم الخميس الماضي. وتعمدت استخدام كلمة «وأخيراً» على أساس أني في مقال سابق ذكرت فيه أن اتفاق 10 مارس (آذار) بين البلدين لم يتم توقيعه من قبل وزيري الخارجية، وإنما وقع عن البلدين من الجانب السعودي رئيس الوفد المفاوض الدكتور مساعد العيبان، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء مستشار الأمن الوطني، في حين كان الوفد الإيراني برئاسة الأدميرال علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي. واختلف الوضع هذه المرة؛ إذ يتوسط وزير خارجية الصين نظيريه السعودي والإيراني ويمسك بيديهما ويجمعهما في أول اجتماع رسمي بين وزيري خارجية البلدين منذ أكثر من سبع سنوات.
ولم يكن مفاجئاً اختيار بكين مكاناً لعقد اللقاء بين وزيري خارجية البلدين بدلاً من مكان آخر مثل سلطنة عمان أو العراق أو حتى جنيف، وذلك للتأكيد على دور بكين في الوصول للاتفاق وتسهيل التواصل بين البلدين. وشدد البيان الذي صدر على أثر اللقاء على المبادئ ذاتها للقاء الأول بتأكيدهما على «احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية»، كما أكد تفعيل الاتفاقات المشتركة جميعها بين السعودية وإيران، ومنها اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 17 أبريل (نيسان) 2001، واتفاقية التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب. وبحسب نص البيان المشترك، جدد الجانبان الاتفاق على إعادة فتح بعثاتهما الدبلوماسية خلال المدة المتفق عليها (مدة شهرين)، والمضي قدماً في اتخاذ الإجراءات اللازمة لفتح سفارتي البلدين في الرياض وطهران، وقنصليتيهما العامتين في جدة ومشهد.
وإنفاذاً للاتفاق الثلاثي المشترك خلال جلسة المباحثات في بكين الخميس الماضي، وصل فريق فني سعودي معني بمناقشة آليات إعادة افتتاح ممثليات المملكة العربية السعودية لدى إيران إلى العاصمة طهران، التقى فيها رئيس المراسم في وزارة الخارجية بالعاصمة طهران، الذي أعرب عن استعداد بلاده وجاهزيتهم لتقديم جميع التسهيلات والدعم لتسهيل مهمة الفريق السعودي.
البعد الأمني، إن لم نقل الهاجس الأمني، توليه السعودية اهتماماً خاصاً وأولوية استثنائية في علاقتها مع إيران، بسبب ما شاب علاقاتهما في الماضي من أعمال تهدد الأمن والاستقرار للمملكة والمنطقة بشكل مباشر، وذلك انطلاقاً من توجهها لإعطاء الأولوية للاقتصاد والتنمية التي لا يمكن تحقيقها من دون استقرار وأمن المنطقة بشكل مستدام. ويقابل ذلك الأمر ذاته أن إيران نفسها فيما تواجهه من اضطرابات داخلية وضغوطات دولية بسبب برنامجها النووي والمقاطعة المفروضة عليها من قبل الغرب، رأت أن المدخل للخروج من هذه التحديات يكمن في تطبيع علاقاتها مع السعودية، ومن خلالها مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي، وفي علاقتها مع بقية القوى في العالم العربي الذي رغم بعض الاختلافات بين بعض دوله، فإنها حين يتعلق الأمر بالأمن القومي العربي تتوافق في صف واحد في شكل من أشكال التضامن العربي المشترك. ومن هنا بدأت أغلب الدول العربية على ضوء اتفاق بكين استغلاله من أجل تطبيع العلاقات العربية – العربية. فقد كشفت وزارة الخارجية السعودية، عن بدء مباحثات قائمة مع نظيرتها السورية، لتسهيل الخدمات القنصلية الضرورية للشعبين.والمحور ذو القيمة الاستراتيجية بالنسبة للسعودية بحكم الجوار الجغرافي المباشر، مواصلة اهتمامها بحل الأزمة اليمنية وما تمثله من تحديات أمنية واستراتيجية للمملكة نفسها ولاستقرار الإقليم. وهنا يجب التمييز بين أمرين: الأول التواصل مع الحركة الحوثية من أجل إيجاد حلول ملائمة للمشكلة اليمنية، وحل هذه الأزمة التي دخلت عامها التاسع وسط تداولات ومشاورات لإقرار فترة انتقالية تغلق وتسدل الستار على الفصول المختلفة للأزمة. وكشف مصدر يمني مطلع لهذه الصحيفة عن مسودة سلام شاملة للأزمة يتم وضع اللمسات الأخيرة لها حسب قوله برعاية أممية، وتنقسم إلى عدة مراحل، وفي مقدمتها وقف شامل لإطلاق النار في البلاد، وفتح جميع المنافذ البرية والجوية والبحرية، ودمج البنك المركزي، واستكمال تبادل الأسرى والمعتقلين الذي تم اختصاره بعبارة رمزية مختصرة: «الكل مقابل الكل».
وفي بيان نُشر يوم الخميس الماضي لدى لقاء الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي برئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي اليمني، تأكيد على استمرار دعم السعودية للمجلس في المجالات كافة، وبما يخدم الشعب اليمني ويحقق تطلعاته، ودعم الجهود كافة للتوصل إلى حل سياسي شامل يُنهي الأزمة اليمنية وينقل اليمن وشعبه للسلام والتنمية.
وتمثل تلك المفردات التي وردت في بيان الأمير خالد بن سلمان أهمية بالغة بقوله إن المملكة تدعم الجهود كافة للتوصل إلى حل سياسي شامل؛ بمعنى ألا تعود الأزمة اليمنية كسابقاتها وتجاربها الماضية بالتوصل إلى اتفاقات لا تدوم بنودها إلا لفترة محدودة حتى تتجدد الصدامات بين أطرافها، وفي هذا أهمية لتلك العبارات والتأكيد على حل سياسي شامل ينهي الأزمة.
فهل اتفاق بكين سيمثل العصا السحرية بأن يجعل هذا الحلم واقعاً مستداماً؟ نعم إذا كان الطرف الآخر تبنى نفس التصميم على الحل الشامل مثلما تسعى إليه المملكة. وهنا سيكون لموقف الصين كطرف ثالث في الاتفاق تحقيق ذلك.
اتفاق بكين لا يعني بالضرورة تخلي الطرفين الرئيسين السعودية وإيران عن طموحاتهما المشروعة كقوى إقليمية صاعدة في تعظيم مصالحهما في المنطقة.
ونشير هنا إلى مدى اهتمام إيران منذ عهد الشاه إلى الآن بالوجود وبسط النفوذ في المحيط الهندي وآسيا والمحيط الهادئ.
ففي عام 1974 طرح شاه إيران أثناء زيارته لأستراليا فكرة تشكيل سوق مشتركة للدول المشاطئة للمحيط الهندي، إضافة لأفريقيا الشرقية. والهدف من ذلك كان في الأساس يسعى إلى تشكيل أمن دفاعي مشترك خارج نطاق النفوذ الأميركي والسوفياتي حينها. وتعرقل المشروع برفض الهند الاقتراح وبسبب الصراع الهندي – الباكستاني. المهم في إطار التنافس ودبلوماسية المصالح بإمكان السعودية أيضاً استغلال موقع جنوب اليمن الاستراتيجي المطل على باب المندب وبحر العرب والمحيط الهندي كورقة في علاقاتها مع إيران، وعلى المستوى الآخر فيما يتعلق بالعلاقة بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وبالفعل عملت السعودية عبر ديناميكية ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان على توثيق روابط علاقاتها مع الدول الآسيوية بـ«قمة العشرين» في إندونيسيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ثم مشاركته في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) بتايلند، وشارك في الحوار غير الرسمي للقادة الأعضاء بالمنتدى، ونوّه بهذا الخصوص وزير الخارجية السعودي إلى أن زيارة ولي العهد لعدد من الدول الآسيوية تعبر هذه الجولة عن «رؤية 2030». وأكد وزير الخارجية أن زيارة ولي العهد إلى إندونيسيا وكوريا ومملكة تايلند وما نتج عنها من مباحثات مثمرة، تعبر عن حرص المملكة على توطيد أوجه التعاون الثنائي مع الدول الشقيقة والصديقة.السعودية وإيران مع الصين دخلوا جميعاً في مرحلة لا عودة عنها في إرساء التعددية القطبية، ونجاح التحديات في علاقاتهما الثنائية سيساهم في إحداث التغيير الدولي.