الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 1973

2

خميس بن عبيد القطيطي

تمر الذكرى السابعة والأربعون لحرب أكتوبر المجيدة، وهي الحرب التي حققت انتصارا عربيا على المستوى الجماعي عندما اتحد العرب جميعا في دعم جبهات القتال، وجرى البناء والاستعداد والتخطيط قبل المعركة بسنوات وذلك على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، وشكلت الأمة العربية قاعدة قوية وأبدت استعدادها للتضحية من أجل تحقيق العزة والكرامة والشرف، فكان العرب على موعد من النصر، وهذا يمثل أحد أهم الأسباب التي حققت الانتصار في أكتوبر/تشرين عام 1973م، إضافة إلى أسباب أخرى لا تقل أهمية تتعلق بالجوانب التعبوية والعملياتية والروح المعنوية العالية، والتنسيق المصري ـ السوري المشترك بين الجيوش الثلاثة وقوات الدعم العربية التي شاركت في المعركة، فما أجمل تلك اللحظات حيث صيحات المقاتلين بالتكبير تصعد إلى عنان السماء مستجيبة لنداء الله في تحرير الأوطان، وما أعظمها من لحظات حين دكت معاقل الأعداء لتؤكد للعالم أن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، والقوة وحدها هي السلام والردع الحقيقي في تاريخ الأمم والشعوب، ونحن إذ نعيش هذه الأيام الخالدة في الذاكرة العربية لا يسعنا إلا أن نتقدم بالتهنئة الحارة للأمة العربية، وبالأخص الشعبان العربيان المصري والسوري، ونسأل الله الرحمة لأولئك الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل التحرير واستعادة الأراضي العربية المحتلة. وعلى رغم الظروف التي سادت تلك الحرب إلا أن ما تحقق فيها يعتبر نجاحا عظيما يحسب لهذه الجيوش العربية ولهذه الأمة، وأهم تلك الأهداف هو استعادة قناة السويس وجزء من أراضي سيناء واستعادة مدينة القنيطرة، وجزء من هضبة الجولان السورية، وتحقيق العبور، وهز كيان العدو وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، والتأكيد بأن الأمة العربية متى ما اتحدت فإنها قادرة على تحقيق النصر، إضافة إلى وحدة الموقف العربي فإن استخدام سلاح النفط في المقاطعة العربية للدول الداعمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي هي نتائج عظيمة سجلت بأحرف من ذهب في التاريخ العربي المعاصر، ورغم تقلص حجم النصر في المرحلة اللاحقة من الحرب إلا أن العدو لم يحقق أي نجاحات استراتيجية، لتنتهي الحرب بقرار وقف إطلاق النار على خط الهدنة بينما استمر القتال على الجبهة السورية حتى صدر القرار 338 من مجلس الأمن بتوقف جميع الأعمال الحربية، وتم توقيع اتفاق فض الاشتباك في يونيو 1974م.
حرب أكتوبر المجيدة بدأت منذ نهاية حرب 1967م عندما خسر العرب تلك الحرب مع العدو الإسرائيلي، وعلى الرغم من صدور القرار الدولي 242 بانسحاب القوات الغازية إلى حدود الرابع من يونيو 1967م الذي لم يجد استجابة من العدو، إلا أن العرب حينها وبقيادة الرئيس جمال عبدالناصر قرروا إزالة آثار العدوان الإسرائيلي وتداركوا ما حدث من أخطاء بشكل عاجل فأعلنوا لاءات مؤتمر الخرطوم بعد الحرب مباشرة (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) وما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، كانت تلك الكلمات المختصرة وقودا للعرب جميعا للتحرك والاستعداد، فبدأت حرب الاستنزاف بمعركة رأس العش والتي حققت فيها قوة رمزية من القوات المصرية انتصارا معنويا لتعلن حرب الاستنزاف منذ يونيو 1967م وتستمر حتى الـ7 من أغسطس 1970م، حيث أرهقت حرب الاستنزاف كيان الاحتلال الإسرائيلي وكبدته خسائر فادحة، فأجبرت قادة الكيان على تقديم تنازلات عن سيناء كلها ضمانا للسلام مع مصر التي كانت تمثل الكابوس المؤرق لهذا الكيان بوجود قيادة عربية ترفض كل أنواع التنازلات إلا بالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة وليس من سيناء وحدها، وهذا موثق على لسان شمعون بيريز رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي تلفزيونيا، حيث قال: قدمنا مبادرات سلام مع مصر خمس مرات وبطرق مختلفة ولكن عبدالناصر يقابلها بالرفض دائما؛ لأنه يتحدث عن كل الأراضي المحتلة وليس عن سيناء وحدها. وهذا ما يؤكد بوضوح أن العرب على المستوى الرسمي والشعبي يعملون على إزالة آثار العدوان، كما اجتمع رؤساء الأركان العرب لتنسيق الجهود العربية المقدمة لمصر وسوريا في الحرب القادمة، بالإضافة إلى تحديث وتسليح الجيش المصري وتغيير القيادات القديمة، وهي مؤشرات تعبر عن حجم الاستعداد للمعركة، وتم التخطيط للحرب وأجريت التجارب العملية على بيئات مشابهة لأرض المعركة. وبعد إنهاك الخصم ووقوع كيان الاحتلال الإسرائيلي في مأزق الاستنزاف بسبب الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها فقد تكرر إسقاط الطائرات وتآكل سلاح الجو المعادي بفعل منظومة صواريخ الدفاع الجوي والتي وصفتها جولدا مائير رئيسة وزراء العدو بأنها مثل عش الغراب كلما دمرنا إحداها نبتت أخرى، إضافة إلى العمليات الخاصة التي جرت في عمق العدو مثل تدمير المدمرة إيلات، وتفجير قطار القوات المعادية في سيناء، وتدمير الحفار والعديد من العمليات الخاصة، فجاءت مبادرة روجرز في يونيو من عام 1970م لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر مع المضي في تنفيذ القرار (242) وهي المبادرة التي قبلها الرئيس جمال عبدالناصر لتحقيق هدف عملياتي ذي أهمية بالغة تمثل في تحريك شبكة منظومة صواريخ الدفاع الجوي إلى مواقع متقدمة تسمح بإسناد قريب للقوات عند نشوب المعركة، وتحقيق غطاء جوي أثناء معركة العبور وهو ما حدث بالفعل لاحقا .
في أواخر عام 1970م كانت القوات المسلحة على الجانبين السوري والمصري جاهزة لبدء المعركة، وسميت الخطة باسم رمزي (جرانيت) ثم عدلت لاحقا لتسمى (المآذن العالية) مع تقدير موقف شامل بالتفصيل على مختلف المستويات القتالية، وشرح أدوار كل تشكيل قتالي بالدقة وصولا لعمل الجندي في المستوى الأدنى، إلا أن رحيل الرئيس جمال عبدالناصر أدى إلى تأجيل الحرب، ولكن لم يتوقف الاستعداد على جبهات القتال، بل حقق ذلك عاملا مساعدا للتمويه والخداع وصولا إلى ساعة الصفر (14:00) ظهر يوم السادس من أكتوبر 1973م، عندما انطلقت كل العناصر والتشكيلات القتالية على جبهتي القتال بالجولان السوري وقناة السويس، فتحقق مبدأ المفاجأة للخصم الذي لم يحسب لها حسابا، فكانت صيحات المقاتلين تصل عنان السماء، فتحققت ملحمة عظيمة في معركة العبور، وتجاوزت القوات المقاتلة كل خطوط الإعاقة التي فرضتها “إسرائيل”، فاستطاعت القوات المصرية أن تنفذ عبور القناة إلى الضفة الشرقية، وتجاوز كل خطوط الإعاقة والموانع الطبيعية والاصطناعية مثل المانع المائي المتمثل بقناة السويس وسد خطوط النابالم الحارقة، واجتياز أسطورة خط بارليف وتدمير المانع المتمثل في التحصينات والقوات المدرعة في النقاط الحصينة، وهذا بحد ذاته يعد نجاحا عسكريا عظيما يحسب للقوات المصرية، وكذلك على الجبهة السورية، حيث وصلت القوات السورية إلى جبل الشيخ، ما جعل القيادة “الإسرائيلية” في وضع لا تحسد عليه. وعليه، فقد اجتمع السفير “الإسرائيلي” مع وزير الخارجية الأميركي في البيت الأبيض لاطلاعه على آخر مستجدات الحرب والتي كانت تنذر بكارثة كبرى على كيان الاحتلال الإسرائيلي، فقد بلغت الخسائر في ظرف (3) أيام أرقاما مهولة، حيث تم تدمير (500) دبابة للعدو منها (400) على الجبهة المصرية، وعدد كبير من الطائرات والسيطرة على المنطقة بعمق (12) كيلومترا شرق القناة، وفشل الهجمات المضادة التي أعقبت مرحلة العبور من قبل قوات العدو، كذلك سيطرت القوات السورية على مساحة كبيرة، والحديث هنا عن الأيام الثلاثة الأولى للحرب التي تحقق فيها النصر الفعلي للقوات العربية .
رغم ما حدث بعد الأيام الثلاثة الأولى من الحرب ومعركة العبور العظيمة والتفوق السوري الذي حدث في بداية الحرب، إلا أن ما حدث بعد ذلك يمثل تغيرا جذريا في خط سير المعارك، ويعزو الكثير من المراقبين استخدام السادات لقرار تطوير القتال بعد الوقفة التعبوية أنه أحد أسباب تقليص حجم النصر وخطأ كبير جعل من قوات الجيشين الثاني والثالث المصرية هدفا سهلا للطيران المعادي في الوقت الذي تم فيه إقامة جسر جوي لإمداد “إسرائيل” بأحدث القطع الحربية من الولايات المتحدة، ما أسهم في إحداث تغيير كبير في مسار الحرب وحدثت ثغرة الدفرسوار بين الجيشين الثاني والثالث، وتوسعت لاحقا لتشمل (4) ألوية معادية اخترقت نحو الضفة الغربية، والاختلاف الذي حدث بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، هذا الخلاف الذي بدأ مع قرار تطوير القتال، وكذلك في مسألة معالجة الثغرة التي كان يخطط لها الفريق سعد الدين الشاذلي بسحب قوات من احتياط القوات الأمامية لمعالجة الثغرة عارضه في ذلك القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس أنور السادات، وبالتالي حدث حصار الجيش الثالث لاحقا والخسائر الكبيرة في القوات المصرية، وكذلك كان الحال على الجبهة السورية، ورغم ما حدث إلا أن “إسرائيل” لم تحقق نتائج استراتيجية في الحرب، فقد عادت السيطرة على القناة بيد مصر وبدأت الملاحة فيها عام 1975م، ولم تستطع احتلال أي أراضٍ حيوية في مدن القناة بفضل المقاومة العظيمة، وكذلك استعيدت القنيطرة السورية وبعض الأجزاء من الجولان، وبذلك سجلت تلك الحرب انتصارا للعرب وأنهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وهو انتصار تاريخي يحسب للأمة العربية التي اتحدت من مشرقها إلى مغربها في موقف موحد ونبض عربي واحد، وهذه كلها نتائج عظيمة تؤكد أن الأمة متى ما اتحدت قادرة على العودة وتحقيق النصر.
إن معركة أكتوبر سجلت نتائج ودروسا عظيمة تتعلق بوحدة الموقف العربي ووحدة القيادة العربية، وتكاملية دور الجماهير مع النظام الرسمي العربي، حيث قدم أبناء الأمة العربية الغالي والنفيس لدعم جبهات القتال واستعادة الكرامة العربية، إضافة إلى التنسيق السياسي بعد مؤتمر الخرطوم 1967م والذي وحَّد الموقف السياسي العربي باتجاه الحرب القادمة، والاقتصادي باستثمار عوائد النفط العربي في دعم جبهات القتال، ثم الحظر النفطي الشهير الذي اتفق عليه العرب، وكذا الموقف العسكري من خلال تنسيق جهود العرب وصفقات السلاح من الحليف السوفيتي، وكانت هناك أدوار مشهودة لبعض القادة والزعماء العرب أمثال الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي تحمل بعض تكاليف السلاح ودور العراق من حيث المشاركة الكبيرة في الحرب، والرئيس الليبي معمر القذافي الذي أسهم باستيراد مضخات المياه والتي استخدمت في عبور المانع الرئيسي (خط بارليف) ودور الملك فيصل في إعلان الحظر النفطي الشهير، وتعاون جميع الدول العربية بقوات شاركت في الحرب، بالإضافة إلى مساهمات مالية ودعم معنوي بجبهات القتال، وهكذا عندما يقف العرب على موقف موحد، فتجلت الوحدة العربية في حرب أكتوبر، وما أحوجنا كأمة عربية اليوم إلى استعادة ذلك الحلم الكبير حلم الوحدة بهدف استعادة العزة والكرامة العربية في هذه الظروف العصيبة والتحديات الخطيرة التي تواجه العرب من المحيط إلى الخليج .

التعليقات معطلة.