لقد كانت الديمقراطية الأمريكية لعقود نموذجًا يُحتذى به في جميع أنحاء العالم. اعتبرت أمريكا نفسها حاميةً لمبادئ الحرية وحقوق الإنسان، وسعت لتصدير هذه القيم إلى مناطق تعاني من الاستبداد والديكتاتورية. العراق كان أحد أبرز الدول التي شهدت محاولات لإرساء نظام ديمقراطي تحت مظلة أمريكية بعد عام 2003. غير أن ما نراه اليوم في الولايات المتحدة يثير التساؤلات حول متانة الديمقراطية في مهدها المفترض.
محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب للمرة الثانية، بغض النظر عن ملابساتها، تسلط الضوء على واقع أمني وسياسي متأزم في الولايات المتحدة. ففي الوقت الذي كنا نتوقع فيه أن يستفيد العراق من التحول الديمقراطي بعد سقوط النظام السابق، يبدو أن التجربة الأمريكية نفسها أصيبت بعدوى الفوضى والتصفية السياسية التي انتشرت في العراق منذ ذلك الحين.
المفارقة أن الولايات المتحدة، التي دخلت العراق بزعم نشر الديمقراطية، ربما تكون قد تعلمت منه دروسًا معاكسة. أصبح العراق ساحةً لتصفية الخصوم، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتوسيع نفوذ القوى الإقليمية، وعلى رأسها إيران. وبدلاً من تعزيز الديمقراطية، تحول النظام السياسي العراقي إلى نموذج للفشل في إدارة التنوع والاختلافات، وتحول إلى مثال حي على كيفية تفكك المجتمعات تحت وطأة الولاءات الطائفية والمصالح الفئوية.
هذه الممارسات، التي كانت الولايات المتحدة تأمل في القضاء عليها من خلال إسقاط النظام العراقي السابق، تجد صدى لها في الأزمة السياسية الأمريكية الحالية. فالانقسامات الداخلية، وصعود النزعات الشعبوية، ومحاولات التضييق على الحريات، تُظهر أن الديمقراطيات ليست في مأمن من التفكك الذاتي.
أصبحت أدوات مثل التسويف والمماطلة واللعب بورقة المؤامرة جزءًا من المشهد السياسي، سواء في العراق أو الولايات المتحدة. وربما يعكس ذلك تأثير النظام الإيراني، الذي برع في استخدام هذه الأدوات ضمن سياسته الإقليمية، على المناخ السياسي في المنطقة. فمن المفارقات أن أمريكا، بدلاً من تصدير نموذج ديمقراطي يحتذى به، قد تجد نفسها متورطة في تعلم فنون التلاعب السياسي التي تنتقدها في الدول الأخرى.
إن محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بغض النظر عن حقيقتها أو تفاصيلها، تعكس حالة التوتر الأمني والسياسي التي تشهدها الولايات المتحدة. لقد كان يُنظر إلى الولايات المتحدة لفترة طويلة كرمز للحرية والديمقراطية، حيث شكلت نموذجًا تطلع إليه العديد من الشعوب حول العالم، بما في ذلك العراق بعد عام 2003.
“وفي سؤال مهم اثارته محطة (سي إن إن) بقولها
لقد حاولوا قتله مرة أخرى.
كيف حدث هذا مرتين الآن؟
لماذا يتمكن الناس من الوصول إلى نطاق الرئيس ترامب وهم يحملون أسلحة نارية؟؟!
نحن بحاجة إلى إجابات الآن!”
هذا المشهد المظلم يبدو أنه انعكس بطريقة أو بأخرى على الوضع في الولايات المتحدة، حيث تصاعدت التوترات السياسية الداخلية وظهرت محاولات للتضييق على الحريات. ربما، وبشكل مفاجئ، تعلمت الولايات المتحدة من بعض الساسة العراقيين فنون التلاعب السياسي وتصفية الخصوم.
أن التجربة العراقية تكشف عن هشاشة النظم الديمقراطية عندما تُفرض من الخارج دون أن تكون مدعومة ببنية مؤسساتية قوية ووعي مجتمعي حقيقي. وبنفس القدر، ما يحدث في الولايات المتحدة يُشير إلى أن الديمقراطية تحتاج إلى أكثر من مجرد مؤسسات وانتخابات لكي تبقى قوية ومستدامة. تحتاج إلى ثقافة سياسية تُعزز من قيم التعددية والعدالة والمساواة، وتحمي النظام من الانهيار تحت ضغط المصالح الشخصية والأجندات الضيقة.
إن تحديات الديمقراطية ليست محصورة في العراق أو الشرق الأوسط. فحتى في أعرق الديمقراطيات، مثل الولايات المتحدة، تظهر إشارات على تآكل الثقة في المؤسسات السياسية وتزايد الانقسامات الداخلية. هذه التحديات تضع السؤال الأكبر: هل تستطيع الديمقراطيات إعادة إنتاج نفسها بشكل يُحصّنها من التفكك والانهيار؟
الديمقراطية ليست مجرد عملية انتخابية أو شعار يُرفع لتحقيق أهداف سياسية. هي بناء مستمر يتطلب مجهودًا جماعيًا من المجتمع بأسره، ومؤسسات قوية قادرة على الصمود أمام التحديات. وفي النهاية، يبقى الأمل في أن تكون هذه الأزمات فرصة لإعادة التفكير في مستقبل الديمقراطيات وتعزيزها لتكون قادرة على تحقيق آمال الشعوب في الحرية والعدالة .
“وعلى الولايات المتحدة أن تأخذ الدروس المناسبة من تجربتنا الفاشلة وليس بتكرار الأخطاء، بل بتعزيز مناعتها الديمقراطية ضد عدوى فايروس العراق الايراني ، وتحصن نفسها من التلاعب السياسي والانقسامات، والعمل على حماية قيمها الأساسية من التآكل.”