مقالات

الديمقراطية ورهان المستقبل

الكاتب:عــلــي حــســن الفــواز
 
 
الذهاب الى المستقبل هو الرهان السياسي الوحيد أمام الكتل والاحزاب العراقية، وبعكسه فإنّ أي خيار آخر سيكون كارثيا في الحسابات السياسية والاقتصادية، وحتى الأمنية، فما شهدته الانتخابات البرلمانية الجديدة من تعقيدات وشكوك وعزوف عكس كثيرا من هذه الهواجس، وحتى نتائجها بدت للبعض وكأنها أشبه بصحوة للديمقراطية، حيث تنوعت الخيارات، وذهب الجمهور الى محاولة تجاوز واقع تكرست بعض مظاهره منذ خمسة عشر عاما.
فرغم محدودية التغيير في الخارطة البرلمانية، إلّا أنّ ماجرى يؤشر مدى الحاجة الى الرهان على هذا المستقبل، وعلى النظر الى الدولة كمؤسسة تحتاج الى إدارة رشيدة، وعلى النظر الى المجتمع وحاجته الى منظومة كاملة من التنميات البشرية والخدماتية والتعليمية والثقافية والسياسية، وهي أمور من الصعب التعاطي معها دون وجود سلطات فاعلة على المستوى التشريعي والرقابي، ودون وجود بناء مؤسسي فاعل على المستوى التنفيذي/ الحكومة الاتحادية، ودون وجود جهاز قضائي مهني وقادر على ضبط معايير ادارة الدولة وحمايتها، فضلا عن الحاجة الى مجتمع مدني حقيقي وحر، وقادر على المشاركة والنقد، وعلى صياغة الرأي العام الضاغط والفاعل والمؤثر.
الدولة والديمقراطية
الديمقراطية والديمقراطيون ثنائية لازمة، لكن العمل على صناعة البيئة الديمقراطية هو مايجعل ذلك الثنائي أكثر واقعية، وأكثر تعبيرا عن حاجات الدولة الوطنية، وعن بنائها العقلاني والمؤسساتي، إذ تعني هذه البيئة جميع العوامل والوسائط التي من شأنها أنْ تُعطي للديمقراطية قوتها ومنعتها، وتعزز الثقة بها من قبل الجمهور، فما حدث في الشارع الانتخابي من عزوف عن المشاركة في الانتخابات كان مردّه عدم الثقة بالديمقراطية، وتكرّس مظاهر الأزمة والعجز والفساد التي اقترنت بالدورات السابقة وضعفها في التعبير علاقة الدولة بالديمقراطية، فالدولة ظلت ضعيفة وعاجزة، والديمقراطية ظلت محل شُبهات، وهو ما انعكس على الأداء الحكومي، حيث كان ضعيفا ومحدودا، على مستوى تأمين الامكانات للنهوض بالمسؤوليات التنموية والسياسية والخدماتية، وإدارة الملفات المعقدة بمهنية حقيقية..
إنّ بناء الدولة، أي البناء الحقوقي القيمي والتنمي هو التحدي الأكبر للدورة الانتخابية الجديدة، ولما ينبثق عن تحالفاتها من حكومة يمكنها مواجهة تحديات مرحلة ما بعد داعش، فإذا كانت حكومة السيد حيدر العبادي قد انجزت مهمة وطنية كبيرة عبر الانتصار الناجز على داعش، وتحرير المدن العراقية من الجماعات الارهابية، فضلا عن سياستها في الانفتاح الدبلوماسي على المحيط العربي، فإن المرحلة القادمة هي مرحلة اعادة البناء والاعمار، ومواجهة ما تداعى من الواقع الاجتماعي والخدماتي، وأحسب أنّ هذه المواجهة ستكون الجزء الأكبر والحقيقي من الرهان على المستقبل، وعلى تعزيز مسار الدولة وتجربتها الديمقراطية.
 
 
الديمقراطية والمؤسسة الامنية.
لقد اقترنت المرحلة الماضية بحضور فاعل للمؤسسة الامنية، على مستوى تحرير المدن، وحماية الأمن الداخلي، وتعضيد الوحدة الوطنية وقوتها من خلال عمل تلك المؤسسة، وعبر حلقاتها وتشكيلاتها المتعددة، بما فيها الحشد الشعبي الذي كان عنوانا للفخر، وللايمان بروح الشعب ومسؤولياته في مواجهة التحديات الكبرى، والتلازم مابين المشروعية المؤسسية الدستورية، والشرعية الدينية التي كانت لفتوى المرجعية العليا أثرها في تقعيد المعنى القيمي لهذه الشرعية ولمسؤوليتها.
المرحلة القادمة لاتنفصل عن ما سبقها، لكنها محكومة أيضا بعوامل تاريخية، وبشروط اجتماعية وسياسية واقتصادية وحتى امنية، والتي تستدعي مأسسة العمل الأمني بإطارٍ وطني وقانوني ودستوري، ومن خلال جملة من الاجراءات التي تكفل ذلك، ومنها البناء المهني، وحصر السلاح بيد مؤسسات الدولة فقط، واخضاع الجميع الى القانون الوطني، مع الأخذ بعين الاعتبار تأمين كل الاستحقاقات والرواتب التي تخصّ العاملين في هذه المؤسسات والتعاطي القانوني مع عوائل شهداء المؤسسة الامنية ومنهم شهداء الحشد الشعبي، وحماية وعلاج الجرحى منهم، وتأمين الخدمات الطبية اللازمة لهم.
هذه التحققات هي السياق الحقيقي الذي تتبدى فيه أنسنة الدولة، وأطر بناء شرعيتها، وتعزيز ثقة الناس بها، فضلا عن دعم وظيفتها القانونية في مواجهة ارهاب الفساد، وقطع دابر جماعاته، من خلال العمل القانوني والأمني، وعبر ابتكار الوسائل الأكثر فاعلية، على مستوى تنظيم العمل المصرفي، وفضح طرق تبييض الاموال، وتهريب العملة، والاثراء غير المشروع، والتي تحوّلت للأسف الى(اخطبوط) مرعب بات يهدد البناء المجتمعي والسياسي، وحتى الديمقراطي، من خلال ايجاد ما يمكن تسميته ب(المال السياسي) أو(المال الأبيض) الذي تُشترى به الذمم، والذي سيكون مسؤولا عن خلق مافيات فساد تملك قوة العنف في اثارة كثير من المشكلات المعقدة التي تهدد بناء الدولة ومسارها الى المستقبل.