فهد الدغيثر
أعلنت السعودية يوم الثلثاء الماضي عن أضخم موازنة إنفاق بتاريخها وقد اقتربت من تريليون ريال يتوقع صرفها عام ٢٠١٨، بعجز مالي يقل عن العجز الذي صاحب الموازنة السابقة، وهي الأقل إنفاقاً من موازنة هذا العام. القراءة الأولى لهذه الموازنة تشير إلى درجة عالية من المرونة في تخطيط الدولة، المتمثل في العودة سريعاً إلى الإنفاق ودعم المشاريع. لعلنا نتذكر ما خرج مع بيان وزارة المالية قبل عامين عندما انكمشت في شكل واضح نفقات الدولة في محاولة لإلتقاط الأنفاس وتكييف الوضع المالي مع أسعار النفط المتدنية وشح المداخيل غير النفطية. اليوم تستجيب الدولة وبسرعة مذهلة إلى التحسن الملحوظ سواء في المداخيل غير النفطية وهي الأهم وفرس الرهان لاقتصاد الغد، أو في ما طرأ على أسعار النفط من تحسن طفيف.
وحسناً فعلت ذلك، لأن الإنفاق الحكومي هو الذي يشكل العمود الفقري حتى الآن على الأقل، لدعم مؤشرات النمو. نتوقع عودة الحياة إلى عدد كبير من الشركات والمؤسسات التي اعتادت على تنفيذ مشاريع حكومية، مع الأمل بالطبع بأن تتقبل هذه المنشآت ظروف الغد، وضرورة التكيف مع العمل في مشاريع القطاع الخاص، لا سيما أن مواجهة الفساد القوية وغير المسبوقة التي بدأت قبل أسابيع عدة ستضيِّق الخناق على «البعض»، ممن كان يعتمد في السابق على وسائل الدعم الخاصة. من هنا فالمتابع سيتوقع نمواً واعداً في الاقتصاد السعودي نهاية العام المقبل.
مع كل هذا التفاؤل، لا يجب إغفال مؤشر البطالة الذي لم يطرأ عليه أي تحسن، بل إنه مرشح للارتفاع إلى ما فوق ١٣ في المئة مع نهاية هذا العام، نظراً إلى أن عدد طالبي العمل الجدد كل عام يتفوق على عدد فرص العمل الجديدة. على أن العدد الفعلي للعاطلين يعتبر بسيطاً وسهل المنال مقارنة بعدد الموظفين غير السعوديين العاملين في المملكة.
بمعنى أن فرص العمل متوافرة، لكن السعودي المتخرج الجديد قد لا يجد العدد الكبير منها مناسباً لتطلعاته أو لتخصصه.
هذا لا يعني بالطبع أن العاملين من غير السعوديين يحملون درجات علمية في التخصص الذي تتطلبه الوظيفة. الفارق الوحيد أن الأجنبي يملك الرغبة والإصرار على اكتساب خبرات جديدة في أي وظيفة متاحة، بينما السعودي وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا في أضيق الحالات. هنا ندخل في المبررات التي صمّتْ الآذان، وهي دهاليز قصة التعليم ومخرجاته، وأنها لا تتناسب مع متطلبات سوق العمل. هذا نظرياً صحيح، أما عملياً فهو شبه مستحيل، إذ وكما أشرت يضطر المتقدم في كثير من الأحيان إلى قبول وظيفة معينة لم تكن مهماتها جزءاً من دراسته وشهادته، وهذه ظاهرة عالمية وليست مقتصرة على منطقتنا. في تنقلاتي حول دول العالم ألتقي بالكثير من المتخصصين علمياً، لكنني أكتشف أنهم يعملون في وظائف لا ترتبط على الإطلاق بشهاداتهم سواء في الدول الغربية أم الشرقية.
لا بد أن نشير أيضاً إلى الحاجة لمراجعة الوسائل السابقة لربط السعوديين بسوق العمل ونعيد الحسابات من جديد. فكرة إجبار المؤسسات على توظيف السعودي كانت تجربة سيئة بل وفاسدة، من حيث أن تلك السياسة خلقت ما يسمى الموظف الوهمي، الذي يتم تعيينه موظفاً لكنه لا يحضر ولا يؤدي أي مهمة. وجوده فقط لإرضاء الجهات الرقابية التي تطلع على السجلات والرواتب. رفع أجور الأجانب من خلال فرض الرسوم قد يساعد على مقاربة تكاليف الموظف الأجنبي مع السعودي، لكن هل يضمن رب العمل بقاء السعودي في الوظيفة كما هي الحال مع الأجنبي الذي يعمل خصيصاً للمؤسسة؟
هل فكرنا مثلاً بتحفيز المؤسسات والشركات التي توظف وتدرب وتحتفظ بالسعودي؟ اليوم ومع الرسوم والضرائب لا بد من التفكير مجدداً بوسائل مبتكرة. يمكن الدولة ومؤسساتها أن تضع برنامج مكافآت مدروساً بعناية، يبرز الجهات التي تهتم بتدريب الطاقات البشرية الوطنية وتحافظ عليها. من هذه المكافآت الإعفاء الضريبي الموقت، أو التخفيض المحدد لرسوم الطاقة، أو التفضيل في الفوز بالمناقصات ونحو ذلك. ويمكن الدولة من الجهة الأخرى أن تصمم برنامجاً على شكل مسابقة لأفضل ١٠٠٠ موظف وموظفة سعوديين يعملون في القطاع الخاص، بحيث يعتمد الفوز على الأمانة والابتكار والالتزام والانضباط، وتكون الجوائز المقدمة مغرية وغير مسبوقة، كأن يتم خصم ٥٠ في المئة من قيمة المنزل الجديد لهذا الموظف. وحتى تأخذ هذه المبادرات نصيبها إعلامياً وكما نفعل في الرياضة وغيرها، أقترح وبعد تصميم هذه البرامج وإقرارها، إقامة حفلة سنوية كبرى لهذه المناسبة برعاية ملكية، ويصبح هذا الحدث مواكباً للطموحات الكبيرة التي يحملها مستقبل البلاد، ويوضع له تاريخ محدد في روزنامة الوطن تحت مسمى «يوم العمل».
نستطيع فعل ذلك وأكثر، لكن الذي لا نستطيع فعله ولا نريد أن نتناساه هو إهمال هذا الخطر العظيم، والارتكان في موضوع الإقلال من البطالة إلى العرض والطلب فقط، وترك المؤشرات تنمو بهذه المعدلات المزعجة.
نعم سنقضي على البطالة مع ارتفاع حجم المحتوى المحلي في الصناعات ومع اكتمال خطط الرؤية، ولكن ذلك سيأتي بعد ١٠ سنوات على الأقل، لكن الحديث اليوم هو عن هذا «اليوم» وليس عن العقد المقبل.
أختتم بهمسة من القلب لكل الأبناء والبنات ممن تخرجوا للتو ويبحثون عن وظيفة. توقفوا عن متابعة إعلان وظائف وزارة الخدمة المدنية، وابحثوا عن وظائف القطاع الخاص، واقبلوا بها مهما أتت في بداياتها أقل من الطموحات.
وظائف الدولة، حتى مع الأمان الذي تحمله، تعتبر جامدة، ولا يمكن مقارنتها بوظائف الشركات والمؤسسات. في الشركة قد يتجاوز راتبك الشهري وفي أقل من خمس سنوات راتب وزير الخدمة المدنية أو وزير التعليم في دولة كالسعودية، بينما في وظيفة الدولة لا يمكنك تحقيق ذلك إلا عندما تصبح وزيراً.