مقالات

الروح والعلم.. وما يسند وجودنا ويبقيه

علي عقلة عرسان


أمس ازدَهت عواصم في عالمنا بالأضواء والغناء والأزياء، وأحالت حلكَة الظلمة بياضا.. احتفلت بالزمن، من مشرق الأرض إلى مغربها، من سدني إلى نيويورك، مرورا بدبي وموسكو وباريس و.. و.. لكن كُرات الزمن العملاقة، في المَجرات والأفلاك، ظَلَّت تدور في مداراتها، وتكرُج على بكراتها، من دون توقف يوحي بنهاية وبداية.. فلا نهاية ولا بداية تبدو لنا في الزمن، ولا تمايز بين جزيء من جزءٍ من الثانية وآخر، الأبدية والسَّرمدية تتناغمان على نحو لا ندركه.. لكن البشر يدعون أنهم يعرفون بدايات ونهايات، وأنهم يدركون ما هو أبعد من الذرات والجزيئات.. إنهم يصطنعون نهايات وبدايات، أساطير وحكايات وتواريخ وما إلى ذلك من بهاءات لهم. إنهم يدمنون الوهم والإيهام، ويعيشون عصرا ينقضون معطياته المعرفية والعلمية بعد عصر.. إنهم يتقدمون، لكنهم لا يبلغون الغايات لكي يحق لهم أن يطلقوا الأحكام الخالدات.. إنهم يصنعون التمايز، وبعضهم يصنع العقائد، ويخترع شعْبا خالص النقاء، مدعيا الاستناد إلى اثنيات وجينات، تنقضها معارفهم وما يعلمون من علوم، لكنهم يكابرون، ويرفعون وهمهم فوق علمهم كبرا واستكبارا، فيأخذون بالوهم ويغفلون العلم.. حتى إن بعضهم يضع نهاية لتاريخ وبداية لتاريخ، في سلسلة تأريخهم وما يؤرخون لأحداث وذوات وحضارات، وما ينسجون من تهيؤات.. ويهللون فخرا بما يصنعون.؟!
ها هم بشرٌ منا، في الشوارع والساحات، في الفنادق والمطاعم والحانات، يرقصون ويغنون ويأكلون ويشربون، احتفاء بما يتوهمون ويصطنعون ويؤرخون.. “هذا أمسُ زمنٍ مضى وذاك غدُ زمنٍ آت، وبين الزمنين فضاءات تقدَّر بالساعات والأيام والأشهر والسنوات”، ولكلٍّ معنى وطعمٌ ووقعٌ عند/ وعلى أفراد وجماعات وشعوب في أرضهم، أرض البشر.. لكنَّا نبقى جميعا أسرى الزمن السرمدي، نعيش تمييزا وتمايزا.. فمنا ” الغلابا” الذين يجرُّ كلٌّ منهم النِّير، يشعرون بالمآسي تُنضِج أكبادهم، وباللحظات تَموثُ المُر في لعباهم، وتدلقه في حلقوهم.. ومنَّا مَن يتلهون بأسى الآخرين وبؤسهم، ويصنعون لهم الألم وما هو أقسى وأبشع وأفظع، ويتلاوذون بأصابعهم ليواروا ذواتهم وما يفعلون، لكن آثارهم وظلالهم تفضحهم وما يشعرون، ومع ذلك لا تعني لهم الفضيحة شيئا، فهم فوق الصفات والمواصفات والتَّبِعات، يلهون بالخلق عن الحق.. يأكلون ويشربون ويرقصون ويتاجرون ويطغون ويقتلون ويتابعون طريقهم بزهو، وينام الواحد منهم قرير العين في فضاء ظلمه المديد، لا يحاسبه ضمير، ولا يحسب حسابا لربٍّ، ولا يردعه قانون، فلا ردع ولا رادعون.. بيده سلطة يسوط بها الآخرين، أو يملك ما يجعل كل سلطة تسوطهم إذا أمر، وتحميه من غضبتهم، وتؤبِّدُ قهرهم إذا قهر.؟!..
عالمنا عوالم، وفي مداه الواسع ظلمات ومظالم، تمتد بين عالم الغارقين في البؤس والطين، وعالم المتنعمين بالمال والسلطة والقوة والبنين.. بين عالم الراقصين على إيقاع “الجَاز”، وعالم الغائصين هم وأطفالهم وخيامهم في طمي الأودية، يرتعشون خوفا، ويبكون جوعا، ويموتون قهرا وذُلّاً.. وعالمنا عوالم تمتد بين عالم القَتَلَة وتجار الحروب والدَّم والأزمات، وعالَم الضحايا والبؤساء والشهداء والأيتام والجنود، والحرَّاثين الذين يحرثون ويبذرون ويحصدون فيجوعون ويأكل المُتخمون.. عالمنا عوالم بعدها عوالم، كلٌ منها يضجُّ بمكوناته الخاصة وتطلعاته الخاصة، تجعل أبناء البشر بين “بَطْرانٍ” و”غَلْبان”، بين “عزيزٍ ومُهان”، بين “جلادٍ” و “ضحية”.. لكن الأنكى من ذلك في هذا الميدان هو الحرمان والافتراء، الحرمان من العدل والأمن والحرية والإخاء، وافتراء الجلاد الذي يحوِّل ضحيته إلى جلاد، ويشكو من “إرهابها له، ومن تهديدها لطغيانه، ومن تمردها فهي تَتَمَلْمُلُ وقد تصرُخ وهو يطلق عليها النار عن قرب وبدمٍ بارد.؟!
أمس الزمن “الماضي” كان قاسيا عليَّ أكثر من يوم أمس، وربما من غدٍ الآتي، فقد طَوَّحت بي لُجَجٌ هائجة بين مدٍّ وجَزْر في آماد عتمة وريح، حتى لم أعد أعرف ذاتي ومستقري، وما ينجي وما يريح، وربما أجزم بأنه، “في حياتي لم أجد ما أسند إليه وجودي.”، كما حصل لي في تلك الليلة التي ” فَصَّلوا فيها الزمن على مقاسات قامات ومقامات..” تبارت في البَذل على الهَزْل، وعلى من تكشف عن ثدي وساق، ومن يزري بأهل الحق والعلم والصدق، ويضفي على الظلم والجهل فضلاً بنفاق.. وتناست ما تحتاج له أمة محاصَرة بالأعداء ومضطهدَة حتى من بعض بنيها، ومَن يحتاجون إلى فضل ذوي الفضل، ممن يغرقون في الفقر والبؤس والحاجة، ويعيشون المآسي، وتقهرهم الغربة حتى وهم في أوطانهم، فضلاً عمن يعانون منها في المنافي.. ويتناسون معاناة ملايين الأطفال.. أطفال في مجاري الفيضانات بلا مأوى ولا طعام، وأطفال في الجوع والمرض والجائحات بلا دواء، يتطوحون بين نار ونار في حروب الأخوة الألداء، وأطفال في المنافي، يضطهدهم وذويهم مَنْ يتوَّج في “عالمنا البائس؟!” داعية للسلام، ومناضلاً من أجل حقوق الإنسان.. وأطفال بلا مشافٍ ولا مدارس، وأطفال بلا ملابس، وأطفالٌ على الجبهات يحارب بهم ذوو عاهات، وأطفال في المعتقلات، وأطفالٌ، وأطفالٌ، وأطفال.. على ذلك اللج تقلبت، اكتويت وأنا في محيط الماء.. ولا أعرف كيف تناهت إليَّ، في مدى ذلك الإدلاج في عالم الناسوت المهووس، كلماتُ ” جِران العَوْد، النُّمَيْري، عامر بن الحارث بن كَلفة”:
فإنَّ الفتى المَغرور يُعطِي تِلادَه
ويُعطَى الثَّنا مِن ماله، ثمَّ يُفْضَحُ
وقدرت أن ذلك ليس الغرور وحسب، بل تضاف إليه الحماقة التي قال ابن الاعرابي: “سمي الرجل أحمقا لأنه لا يميز كلامه من رعونته، ويفرح الأحمق بالمدح الكاذب” وفي قال المتنبي:
لكل داء دواءٌ يُسْتَطبُّ به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
ورأيت، وقد أكون مخطئا، أن عصرنا ينحدر بنا، وننحدر نحن به كثيرا، وتثقلنا في مدى الانحدار ذاك كتل، بل جبال، من العداء والاستهداف والعبث بنا.. فنهوي بالإنسان من حيث هو قيمة وحقوق وحياة وحرية، ومن حيث هو روح ومادة في تلازم فريد خلاق من جهة، ومن حيث ما نحيطه به من استهتار به وبحياته، ومن زجٍّ له في المصاعب والأزمات والصراعات ذات العقم المقيم، ومن حيث ضمور التسامح والتراحم والرحمة، وغياب حسن الأداء في كل ما يرتفع به غاية وقيمة ومكانة.. وفي ما يرفع الناس بعضهم فوق بعض مقامات وفق العلم والقدرات وحسن الأداء، في المعاملات والعبادات.. إن وقائع الحياة من حولنا، وعبر التاريخ تشير إلى أنَّ أحدا من الحريصين على الإنسان والحق والعدل ونوع الحياة التي تليق ببني البشر، لا يستطيع في عصر الانحدار وغياب التعاون على البناء والتقدم، لا سيما في هذا العصر عصرنا، وفي بقاع أرض تخصنا نحن العرب والمسلمين خاصة، أن يوقف ذاك الانحدار.. بل إنه ليُخشى على من يحاول أن يوقف الهُوُيَّ نحوَ عمق الهاوية، من أن يُسقِطَه حبلُ دَلْوِه، شأنَ من يسقي ويستسقي من بئر عميقة، فيهوي دَلوُه في عمقها، ويلفّه حبل دلوه ويهوي به في الهاوية.. لذا يجد أن عليه أن يحذر من أن يلفه حَبلُ دلوٍ يدليه في هذا العصر ليسقي ويستسقي. ومن أسف أقول إنَّ عصرنا يهوي بنا ونهوي به، وحين لا يستطيع المرء أن يملك ذاته ومصيره في عاصفات الأحداث وشدة الشدائد وفساد المحيط وتردي الظروف، فأي شيء يمكن أن يملك من منقذات وحمايات، ومما يمكن أن يستند إليه في حياته، ويسند وجوده، ويجعل لذلك الوجود مبنى ومفهوما، وغاية مرموقة، وحضورا ومعنى وقيمة؟! إن آخر ما نلجأ إليه في العاصفات “الإرادة، والروح، نور العقل والقلب، الإيمان والعمل المنقذ، والثقة بالذات وبالآخر، والتعاون والتكافل والتضحية، وهجر الأنانيات..”، ولكن ما الذي نملكه فعلاً من ذلك الذي ينقذ ويحمي وينهض بنا، لكي نصوغ بالعلم والمعرفة والتقانة العالية، ما يمكن أن يشكل سفينة إنقاذ، أعظم من تلك التي كانت لنوح، وأن تكون لنا من أنفسنا حاملة قوية تمنحنا قدرة وثقة وإنجازات في مجالات البناء والإبداع، تساهم في رفعنا فوق مدى التردي المُهلِك، وترفعنا أعلى من البقاء على سطح ضحل، أو جزءا من ضحالة سطح وتعكير ماء.. لكي نبقى وجودا حيا، ونسند وجودنا، ونؤيده بقوى وروافع ودوافع، وننهض؟! إن اللجوء للروح وطاقاتها الخلاقة، مما يفكر به المرء مَسندا للمادة إذا ما تهاوت المادة، لكن إذا تهاوت الروح وتهاوت المادة، فما العمل، ومن أين نبدأ لنصل؟! إن الروح أغلى ما نملك، والروح آخر ما يفقده الكائن الحي قبل دخول في ملكوت الغياب، عند بلوغه بوابات العدم أو ساحاته.. والروح آخر ما يُنتَزَعُ منَّا فنصبح رمة، وعلم الروح مهم، ونحن نحتاج إلى المعرفة الحقة لكي نبحر في هذا المحيط، محيط الروح، روح الفرد وروح الأمة.. ولكن “الروح من أمر ربي”، والحديث عنها بيقين، بوصفها عاصِما ومُعْتَصَما ومنقذا، يبقى نوعا من الوهم من دون الحديث المادة الحاملة لها، “الجسد، جسد الفرد وجسد الأمة”، الجسد الذي يحملها وتحمله، يرتفع بها وترفعه.. وأظن أن ذلك لا يكاد يجدي، وهو لا يُغني عن المَعرفة العلمية والعلم والإيمان شيئا. والمعرفة – العلم – والتقانة – الوعي، في هذا العصر، أساسٌ للبناء، ومادة لا يكون من دونها بناء.. ونحن لا نقدم للمعرفة ما نقدمه لما يزري بها وبأهلها، ولمن ينهشون لحمنا ليل نهار، وفتكون بمقومات وجودنا، ويحاولون تدمير ثقتنا بأنفسنا، ولئولئك الذين يفوشون على سطح الحياة، حياتنا، سطحية وجهلاً وادعاء، فيوهمون من يعنيهم الوهم والتوهم والنفاق، بقدرتهم على السباحة في لجج محيطات العصر، تلك التي علينا أن نسبح فيها بمهارة واقتدار لنبقى ونكون، قبل أن نسبِق.. فما معنى الحديث إذن عن آخر ما نملك، عن “الروح”، حين يكون المرء في النزع الأخير في الحياة، أو عندما يكون قريبا جدا من ذلك؟! إن علنا أن نلجأ إلى ذلك المُعتَصَم، الروح، بإيمان ووعي ومعرفة وعلم وأخلاق وإيمان، بتكافل وتضامن، بوعي تام لما يسند وجودنا ويسندنا في الوجود، ويبقينا أمة وهوية وعقيدة ولغة وثقافة وحضارة وتاريخ.. وألف باء ذلك الاهتمام بالإنسان، وبالمستقبل، ومستقبلنا هم أجيالنا التي لا نوليها من الاهتمام أدنى ما يجب. إن الاهتمام يجب أن ينصب أولاً على العناية بالأطفال، بالفتيان، بالشبابب الذين هم المستقبل، أولئك الذين نضعهم بين نار الحرب ومحارق الجهل والضيق والتضييق، والبؤس واليأس، ولا نوفر لهم حياة كريمة، ولا مقومات العلم والتعلم والإبداع، ومقومات تربية في الانتماء والاعتزاز والكرامة.. إننا نرهقهم جوعا وفقرا وقهرا، ونمنعا عنهم الحرية مناخ الكرامة والإبداع، ونكبح طاقاتهم الخلاقة.
وطاقة الروح هي التي بها نحيا، وعليها ينبغي أن نحافظ، لكي نبقى على قيد الحياة، أمة فاعلة جديرة بماضيها، متطلعة بثقة إلى مستقبلها ومكانتها بين الأمم.