د. عبد الله الردادي
لطالما كانت العلاقة بين الاقتصاد والسعادة محور اهتمام الاقتصاديين وعلماء الاجتماع وصناع السياسات، وكان السؤال التقليدي هو: هل يجلب المال السعادة؟ هذه الفكرة التقليدية، التي تميل إلى التبسيط إلى درجة تسطيح الفكرة، كانت تقوم على افتراض أن ارتفاع الدخل يؤدي مباشرةً إلى زيادة السعادة، وقد هيمن هذا المبدأ على الفكر الاقتصادي طوال القرن العشرين، بالاستناد إلى أن الثروة توفر الوصول إلى السلع والخدمات والأمان، ولذلك فقد تبنّى صناع السياسات نمو الناتج المحلي الإجمالي مؤشراً نهائياً لنجاح الدول، معتقدين أن ازدهار الاقتصاد سيؤدي إلى تحسين رفاهية الأفراد بشكل عام، إلا أن الأبحاث وبالتحديد أعمال الاقتصادي الأميركي الراحل ريتشارد إيسترلين في السبعينات الميلادية تحدّت هذا الافتراض المبسط، ممهّدةً الطريق لفهم أعمق للعلاقة المعقدة بين الازدهار والسعادة.
استحدثت أبحاث إيسترلين ما تُعرف الآن بـ«مفارقة إيسترلين»، وهو مفهوم غيّر النظرة السائدة إلى العلاقة بين الدخل والسعادة، وقد لاحظ إيسترلين أنه داخل البلدان يميل الأفراد الأكثر ثراءً إلى الإبلاغ عن مستويات أعلى من السعادة مقارنةً بالفقراء، وهو ما يتماشى مع الفكرة التقليدية، ولكن عند دراسة مستويات السعادة على مدى الزمن مع زيادة الناتج الإجمالي، اكتشف إيسترلين ظاهرةً محيرةً، وهي أن الزيادات طويلة الأجل في الناتج المحلي لا تتزامن مع نمو مستدام في متوسط مستويات السعادة. أي إنه، وبعبارة أخرى، حتى مع ازدهار الدول اقتصادياً لم يصبح مواطنوها أكثر سعادة بالضرورة، وقد كشفت هذه المفارقة عن خلل أساسي في الافتراض بأن النمو الاقتصادي وحده يمكن أن يضمن تحسين الرفاهية.
أدت هذه المفارقة إلى إجراء مزيد من الأبحاث حول سبب فشل زيادة الثروة في تحسين السعادة. أحد أكثر التفسيرات إقناعاً يكمن في مفهوم «عجلة التطلعات»، فمع ارتفاع دخل الأفراد تميل تطلعاتهم وتوقعاتهم إلى الزيادة أيضاً، وما كان يُعد يوماً رفاهية يصبح مع مرور الوقت ضرورة، وتتغير معايير الرضا إلى الأعلى، هذا النمط من التطلعات المتزايدة باستمرار يعوق تحقيق سعادة دائمة من المكاسب المادية، وقد يحقق الناس دخلاً أعلى، لكنهم غالباً ما يظلون عالقين في حالة مستمرة من السعي لتحقيق المزيد، مما يترك تأثيراً محدوداً على سعادتهم العامة، ولا تفسر عجلة التطلعات فقط العائد المتناقص للثروة على السعادة، لكنها تسلط الضوء أيضاً على الطبيعة النسبية للرضا، حيث تلعب المقارنات مع الآخرين دوراً مهماً.
وقد أدرك كثير من الحكومات أن نمو الدخل لا يؤدي تلقائياً إلى زيادة السعادة، ولذلك تأثيرات عميقة على السياسات الاقتصادية، فلفترات طويلة من التاريخ الحديث، ركزت الحكومات على نمو الناتج المحلي الإجمالي وعدَّته مؤشر النجاح الأساسي، وقد دفعت أبحاث إيسترلين والأبحاث اللاحقة إلى إعادة تقييم هذا النهج، فبدأ صناع السياسات يدركون أن التركيز الحصري على الإنتاج الاقتصادي قد يغفل جوانب حيوية من الرفاهية، مثل الصحة النفسية، والعلاقات الأسرية والاجتماعية، والاستدامة البيئية، واستجابةً لذلك بدأ بعض الحكومات في استكشاف مقاييس بديلة للتقدم تعكس نطاقاً أوسع من التجارب الإنسانية. على سبيل المثال، استحدثت المملكة العربية السعودية برنامجاً لجودة الحياة، يقوم على فكرة تحسين جودة حياة الفرد والأسرة خارج نطاق الدخل المادي، كما قامت دول مثل بوتان بتطوير مبادرات، مثل «السعادة القومية الإجمالية (GNH)»، التي تقيس الرفاهية عبر أبعاد تشمل الصحة والتعليم والحفاظ على الثقافة والاستدامة البيئية، وبالمثل طوَّرت منظمات، مثل الأمم المتحدة، مؤشرات مثل «مؤشر التنمية البشرية (HDI)» لتكملة الناتج المحلي الإجمالي من خلال إدراج مؤشرات الصحة والتعليم.
هذا التحول في التركيز أثَّر أيضاً على السياسات التي تهدف إلى تقليل عدم المساواة وتعزيز التماسك الاجتماعي، وأظهرت الأبحاث المستوحاة من مفارقة إيسترلين أن الفجوات في الدخل النسبي غالباً ما يكون لها تأثير أكبر على السعادة من مستويات الدخل المطلقة، ولعل ما يحدث اليوم من مقارنات بسبب وسائل التواصل الاجتماعي أكبر مثال على ذلك، فأصبح ميسورو الحال يقارنون أنفسهم بالأثرياء الذين يقتنون أثمن السلع ويسافرون حول العالم، هذه المقارنة هي أكبر مثال على «عجلة التطلعات» التي تربط السعادة بمستوى التطلعات، لا بمستوى الدخل.
إن التطور في الفكر والسياسات الاقتصادية الذي حفّزته أبحاث إيسترلين، الذي توفاه الله قبل أيام قليلة، يؤكد أهمية مواءمة الأهداف الوطنية مع رفاهية البشر. وبينما يظل النمو الاقتصادي عنصراً حيوياً في التقدم، أصبح من الواضح بشكل متزايد أنه ليس غاية في حد ذاته، ومن خلال دمج الرؤى المستمَدَّة من أبحاث السعادة، يمكن لصنَّاع السياسات صياغة استراتيجيات تركز ليس فقط على الثروة المادية، ولكن أيضاً على العوامل الاجتماعية والعاطفية والبيئية التي تسهم في حياة مُرضية، وهو ما يؤكد أن النظر إلى ما هو أبعد من الناتج الإجمالي المحلي، والتفكير في مقاييس أوسع للنجاح أصبحا ضرورة للوصول إلى الرفاهية المعيشية.