مينا العريبيصحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
قبل عام، ومع نهاية عام 2022، كتبت مقالاً نشر على هذه الصفحات بعنوان «عام سقوط المثاليات الغربية» بعد أن شهد ذلك العام ما تصورنا بأنه قمة الازدواجية الغربية في التعامل مع حرب أوكرانيا واعتبار المسؤولين الغربيين أن حرباً في أوروبا هي كارثة للعالم بأجمعه. سمعنا خطاباً تلو آخر يطالب حكومات شعوب العالم الاصطفاف مع الغرب لحماية «نظام عالمي» سمح بويلات مثل الحروب في أفغانستان والعراق، وأيضاً فلسطين… ونظام عالمي اعتبر الحروب في آسيا وأفريقيا أزمات يجب منع انتشار عواقبها بدلاً من السعي جدياً لوقفها. الترحيب الأوروبي باللاجئين الأوكرانيين، بالمقارنة مع التعامل مع اللاجئين الأفغان والصوماليين والعراقيين والسوريين، أثار أيضاً تساؤلات كثيرة حول المعايير الإنسانية الغربية.
لكن تلك التساؤلات تتضاءل وتبدو باهتة بعد أحداث 2023. جاءت هذه السنة لتظهر على وشك الاصطدام بالقاع فيما يخص القيم الغربية. بل رأينا هذا العام ما يعني سقوط أي محاولة أميركية للتظاهر بأنها ملتزمة هذه المثاليات على أرض الواقع. الحرب على غزة التي أودت بحياة 21500 فلسطيني، على الأقل، ويمثل الأطفال والنساء نحو 65 في المائة منهم، حتى الآن، وجعلت 90 في المائة من شعب غزة نازحاً، وأدَّت إلى انهيار كلي للنظامين الصحي والغذائي للقطاع، هي مأساة بكل معنى الكلمة. هذه المأساة تنفذها إسرائيل دون رادع بسبب الدعم الأميركي المطلق. نعم، هناك تفاصيل مهمة مثل مسؤولية «حماس» عن هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) وتعقيدات للمشهد الإقليمي ودور المجموعات المسلحة، لكن في صميم هذه الكارثة الغطاء الأميركي المطلق لإسرائيل واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. عندما يقول الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، تكراراً، إن إدارة الرئيس الأميركي ترفض وضع أي «خطوط حمراء» لإسرائيل في فلسطين، وإن مقتل آلاف من الأطفال الفلسطينيين «واقع حال أي حرب»، نستذكر كيف أجهش بكاء خلال مقابلة صحافية عند الحديث عن الأطفال الأوكرانيين. بالطبع، أوكرانيا تواجه حرباً قاسية، والدور الروسي في أوكرانيا وسوريا مدمر، لكن لم تشهد أوكرانيا، أو أي دولة أخرى، دماراً وعدم مبالاة كلية لأبسط حقوق المدنيين.
الدعم الأميركي لإسرائيل ليس جديداً أو مفاجئاً، لكن الجديد مدى التمادي الإسرائيلي بدعم أميركي كلي. بات تعبير «وقف إطلاق النار» تعبيراً «استفزازياً» بأعين واشنطن، التي تقوم بكل ما بوسعها لمنع المطالبة الرسمية به، بينما كان الموقف الغربي في كل الحروب السابقة «ضرورة ضبط النفس» والعمل باتجاه «وقف إطلاق النار»، وهو أضعف الإيمان. استخدام واشنطن للفيتو مرة تلو أخرى في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإصرارها على تغيير مسودة قرار للمساعدات الإنسانية، كي لا تفشله، نموذجان آخران للدعم الأميركي لإسرائيل، بالإضافة إلى الدعم المادي والعسكري المطلق.
هذه الحرب هي حرب الرئيس جو بايدن، «الصهيوني» بحسب تصريحاته على مدار العقود السابقة، ويؤكد المسؤولون الأميركيون أنه شخصياً يشرف على موقف بلاده من إسرائيل. وبذلك أصبح هناك واقع جديد، على العالم العربي التعامل معه، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
في مقال صدر يوم 4 أكتوبر في مجلة «فورن أفيرز»، أي قبل 3 أيام من هجوم «حماس»، ادعى مستشار الأمن القومي جيك ساليفان أن إدارة بايدن اتبعت استراتيجية «تقلل من مخاطر نزاعات شرق أوسطية جديدة»، وتجعلها قادرة للتفرغ لمناطق أخرى من العالم. وأضاف: «إننا سنعمل مع أي دولة مستعدة للدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بينما ندعم الحوكمة الشفافة التي تنصاع لشعوبها، كما ندعم الإصلاحيين الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان». لكننا رأينا بعد أيام قليلة من نشر المقال عدم جدية هذا التعهد. في المقال الذي كان طوله 7 آلاف كلمة، كتب ساليفان: «لقد قللنا من شدة الأزمات في غزة». وبعد اندلاع حرب غزة بـ3 أيام، تم تعديل المقال إلكترونياً، بينما تبقى النسخة الورقية للتاريخ. هناك وقائع لا يمكن محوها إلكترونياً، مهما أراد الأقوياء.
حرب غزة أدخلت المنطقة والعالم مرحلة جديدة، لم تتحدد ملامحها بعد، لكن من المؤكد أنها أظهرت فشل سياسة «احتواء» أزمة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وفشل الولايات المتحدة في الالتزام بميثاق الأمم المتحدة.
لم يتبلور بعد مسمى للحقبة التي نعيشها، فبعد الحرب العالمية الثانية كانت هناك «الحرب الباردة»، تلتها مرحلة «ما بعد الحرب الباردة» بسيطرة الولايات المتحدة على المشهد الدولي وانتهاء الاتحاد السوفياتي. ومن ثم مرحلة «الحرب على الإرهاب» التي كان آخر فصولها توقيع واشنطن على اتفاق أعاد أفغانستان إلى حكم حركة «طالبان».
بالطبع، هناك ركائز مستمرة، مثل المنافسة الأميركية – الصينية، وتداعيات صعود الهند، وتراجع أوروبا اقتصادياً، والقضايا الدولية مثل التغير المناخي والمتغيرات بمصادر الطاقة. كما أنه لا يمكن تجاهل واقع أن المدن الغربية هي التي شهدت أكبر المظاهرات المؤيدة لفلسطين، التي ما زالت تتمتع نسبياً بحرية تعبير وتحرك سياسي فريد من نوعه. التنوع الديموغرافي والسياسي في تلك الدول لا بد أن يحسب حسابها في المرحلة المقبلة.
إذا كان عام 2022 عام سقوط المثاليات الغربية، فعام 2023 عام الشرخ الكامل بين المثاليات الإنسانية، ونظم الحوكمة العالمية، التي هيمن عليها الغرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ما يأتي بعد هذا الشرخ سيحدد مسار العالم بأجمعه ولفترة غير منظور نهايتها.