مقالات

السكوت ليس علامة الرضا!

 
د.احمد مصطفى
 
” في مجتمعاتنا مثلا، فإن سكوت عامة الناس على الفساد لا يعني الرضا عن تلك الممارسة أو القبول بها. إنما يعد ذلك السكوت في أضعف الحالات تعبيرا عن عدم المبالاة وربما عدم الثقة في جدوى عدم السكوت، وفي حالات أخرى يكون السكوت جبنا وخوفا من بطش الفاسدين وعلاقاتهم القوية بأصحاب السلطة والنفوذ فيخشى المرء على نفسه إن اختار عدم السكوت واعترض على الفساد أو انتقده.”
من الأمثال الشائعة الذي لا يجادل فيه عامة الناس المثل القائل “السكوت علامة الرضا”، وفي الأغلب الأعم يكون عدم التصريح بالرضا والقبول نتيجة حرج أو خجل أو كليهما معا. ويرتبط المثل عند عامة الناس ـ خاصة في السابق ـ بالأهل حين يسألون ابنتهم إن كانت توافق على من تقدم لخطبتها زوجا، فتستحي أن ترد فيعتبر سكوتها علامة على الموافقة (وطبعا إن كانت لا توافق فستفصح عن ذلك ـ أما إن سكتت فإن السكوت علامة الرضا). وتنسحب المقولة على ما هو أكثر من السؤال الشرعي الواجب على الأهل حين تزويج ابنتهم، لتغطي مواقف فردية وجماعية مختلفة. فإذا سكت الناس عامة عن أمر يخصهم، يفسر صاحب الأمر ذلك بأنه “علامة رضا”، لكن الحقيقة أن السكوت ليس دوما علامة الرضا والقبول والموافقة، بل ربما كان تعبيرا أكثر قسوة عن الرفض الممزوج باليأس من التعبير عن ذلك الرفض والممانعة. والأمثلة كثيرة، ليس فقط في المجتمعات المحافظة وغير الديموقراطية (بالمعنى الغربي) بل في كافة المجتمعات تقريبا وفي مقدمتها تلك الليبرالية الديموقراطية.
أما في مجتمعاتنا مثلا، فإن سكوت عامة الناس على الفساد لا يعني الرضا عن تلك الممارسة أو القبول بها. إنما يعد ذلك السكوت في أضعف الحالات تعبيرا عن عدم المبالاة وربما عدم الثقة في جدوى عدم السكوت، وفي حالات أخرى يكون السكوت جبنا وخوفا من بطش الفاسدين وعلاقاتهم القوية بأصحاب السلطة والنفوذ فيخشى المرء على نفسه إن اختار عدم السكوت واعترض على الفساد أو انتقده. وبين هذا وذاك، هناك المنافقون الذين يسكتون تحسبا لاحتمال الانتفاع من تلك الممارسات ـ مباشرة بفعلها أو بشكل غير مباشر بالتستر على أصحابها. وفي كل تلك الحالات لا يكون “السكوت علامة الرضا”، بل على العكس يكون تعبيرا عن أمراض مجتمعية وسياسية أصغرها أخطر على الناس من نتيجة عدم السكوت. تلك اللامبالاة والانسحاب العام مؤشر على “موت” المجتمعات وليس عن الرضا والقناعة وما شابه. بالضبط كما هو الحال مع الأفراد، فمن يسكت عن شر على أساس أنه لم يصبه، أو أنه حالة عامة لا تخصه وحده، أو حتى أنه لم يصل إليه (بعد) هو كمن يرى النار في الحي ويتقاعس عن إخمادها لأنها بعيدة عنه، حتى تدخل شارعه فلا يهتم لأنها لم تصل باب داره ويظل (ساكتا بعلامة الرضا) حتى تلتهم داره بمن فيها.
تلك الأمثلة من مجتمعاتنا قد لا تختلف كثيرا عما في المجتمعات التي توصف بأنها “متقدمة” في الغرب أو غيره. فالسكوت ليس دوما علامة رضا وقبول وموافقة، وإنما قد تختلف أسباب السكوت. خذ على سبيل المثال المجتمعات الأوروبية التي تسيد حكم القانون إلى حد كبير ففيها يسكت الناس عن إبداء آرائهم العنصرية خشية التعرض للحبس أو الغرامة. ويسكتون أيضا على الإهمال أحيانا وحتى كذب السياسيين خشية أن يؤدي بهم عدم السكوت إلى المحاكم في قضايا تشهير لا يملكون المال للصرف عليها حتى كسبها. ذلك في القضايا العامة ومواقف الجماعات في تلك البلدان “الديموقراطية”، أما بالنسبة للأفراد فلا يختلف الأمر كثيرا أيضا. إنما يسكت “الخواجة” عمالا يرضيه من سلوك شخص آخر لاعتبارات عدة، أهمها أنه لا يريد أن يسد بابا قد يأتيه بمنفعة فيما بعد (فمن لا تطيقه اليوم، قد تحتاجه غدا). وأغلب من تعامل مع الخواجات أو عاش في بلادهم يعرف ذلك جيدا. وهنا تكون أسباب السكوت، جماعيا وفرديا، أكثر خبثا وضررا مثلما هو الحال معها في بلادنا كما ذكرنا من قبل.
بالطبع، ليس هذا المثل الوحيد الذي يتعامل مع “السكوت” لكنه من الأهمية الشديدة للأفراد والمجتمعات مناقشة مدى صدقيته عمليا. وإذا كان المثل الآخر الشهير “إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب” يعلي من قيمة السكوت، فإن سياق استخدامه مختلف. فأحيانا فعلا يكون السكوت موقفا (وليس بالطبع علامة رضا أو العكس) إما بمعنى أن ما يقال أو يفعل لا يمكن التعليق عليه أو لأن الأمر تجاوز الكلام (الفضي) ومن الأفضل السكوت وإفساح المجال للعمل. ومع أن أمثالنا الشعبية هي نتاج تراكم خبرة جمعية لشعوبنا على مدى قرون، إلا أن كثيرا منها يستخدم الآن في سياقات تختلف عما ارتبطت به أصلا وبالتالي لا يمكنها تعزيز حجة أو إضعاف حجة مقابلة. والحديث هنا يطول ويحتاج إلى مجلدات تصفي أمثالنا السلبية والإيجابية على السواء ـ وكثيرا ما تجد في تراثنا المثل ونقيضه، وهذا طبيعي ومنطقي. إنما القصد هنا هو الحديث عن موضوع “السكوت” وأنه ليس كله ذهبا وليس كله رضا أو موافقة. وإلا ما كان القول الأشهر “الساكت عن الحق شيطان أخرس” الذي من فرط شيوعه وثقة الناس به نسبوه للأحاديث النبوية الشريفة.
خلاصة القول، أن السكوت ليس دوما علامة رضا بل قد يكون علامة حياء أو ضعف دون موافقة وأحيانا لا مبالاة وانسحابا. وأنه ليس دائما من ذهب، بل قد يكون أحيانا عكس ذلك وربما أكثر تحديدا حين يكون “سكوتا عن الحق”. إنما أحيانا أيضا يكون السكوت أبلغ من كل كلام، ويكون العمل والفعل هو الفيصل.