السلطة والجامعة والمسيرة

2

 
عبداللطيف مهنا
 
شيء واحد أصاب فيه السيد المندوب، ذلك عندما طالب باجتماع طارئ للجامعة على مستوى المندوبين. كان واقعيا، لم يطالب باجتماع على مستوى وزراء الخارجية لعلمه بتعذره، كما لم يتورَّط في تخيُّل اجتماع على مستوى القمة حتى لا يتهم بأنه غير ذي عقل…وإذ اجتمع المندوبون، اختفى الأمين العام، وصدح نيابةً عنه الأمين العام المساعد فحمَّل الاحتلال مسؤولية “إزهاق أرواح الفلسطينيين”، وانتهت الحكاية!
كل مندوب يعبِّر بالضرورة عمن انتدبه. أكان دولة، أو هيئة، أو مطلق جهة انتدبته. ينطبق هذا على “مندوب فلسطين” لدى “جامعة الدول العربية”، وهو أثبته ولم يشذ عنه. تصريحاته الأخيرة، التي سبقت اجتماع الجامعة الطارئ على مستوى المندوبين، وبطلب فلسطيني، والمتعلّقة بمحاولة استدرار موقف ما من هذه الجامعة حيال دمويَّة الاحتلال في مواجهة جماهير مسيرة العودة العزَّل في غزة المحاصرة في يوم الأرض، لم تخرج قيد أنملة على هذه القاعدة. التزم التعبير عن نهج وسياسات ومنطق السلطة ولم يتجاوز السقف الأوسلوي. كما راعى اللعب في المتاح له في حلبة مثل هذه الهيئة الخارج الخدمة قوميا، خصوصا فيما يتعلق بقضية الأمة المركزية في فلسطين، لا سيما وقد باتت المرآة العاكسة بأمانة لجاري الانحدار المشين لفلول ما كان يدعى “النظام العربي” الرسمي سابقا.
قد يقول قائل معتمدا على الشكليات، إن المندوبين والسفراء هم من عدة شغل المنظَّمة وليس السلطة. لكنه لن يعدم ردا من يقول: والسلطة تعتبر المنظمة ومؤسساتها الهرمة المتآكلة، ولها وحدها الحق في استخدام أختامها للبصم على تمرير التنازلات ثم ركنها جانبا لحين الطلب…المهم، وماذا قال “مندوب فلسطين” في جامعة “الدول” العربية؟!
طالب بتحقيق جنائي دولي في جرائم المحتلين، وتناسى أن من أندبوه يتهربون منذ أمد من استحقاق التوجُّه لمحكمة الجنايات الدولية نزولا عند وشوشة النصائح الأوروبية ووعيد التحذيرات الأميركية، وزاد فأخبر العالم بما يعرفه العالم وما هو أكثر منه ويشيح عنه، فقال: لقد “احتلت إسرائيل أكثر من 60% من إجمالي الضفة، وقامت ببناء المستوطنات دون وجه حق، ولا تزال تحاصر قطاع غزة”!
…الذي يعرفه العالم ويشيح عنه، أو لا يريد أن يعرفه، هو أن فلسطين كلها محتلة من نهرها إلى بحرها، بما في ذلك غزة المحررة من داخلها والمحتلة جوا وبحرا وحدودا، وأن وجود الكيان الاستعماري الاستيطاني في فلسطين أصلا هو مجافٍ لأبسط قواعد الحق، وليس مستعمرات الـ60% من الضفة فقط. وإذ يختمها بالإشارة إلى حصار غزة، يتناسى أن من يمثّلهم يشاركون الأعداء والأشقاء في حصار غزة منذ 11 عاما ويفرضون عليها العقوبات ويتوعَّدونها بالمزيد!
…شيء واحد أصاب فيه السيد المندوب، ذلك عندما طالب باجتماع طارئ للجامعة على مستوى المندوبين. كان واقعيا، لم يطالب باجتماع على مستوى وزراء الخارجية لعلمه بتعذره، كما لم يتورَّط في تخيُّل اجتماع على مستوى القمة حتى لا يتهم بأنه غير ذي عقل…وإذ اجتمع المندوبون، اختفى الأمين العام، وصدح نيابةً عنه الأمين العام المساعد فحمَّل الاحتلال مسؤولية “إزهاق أرواح الفلسطينيين”، وانتهت الحكاية!
لا يخوض الشعب الفلسطيني صراعا واحدا من طبيعة تناحرية مع غاز استعماري استيطاني إحلالي، وتحت طائلة نكون أو لا نكون فحسب، وإنما يخوض، ومن أسف، صراعا آخر موازيا له يزداد احتدامه. إنه الصراع بين فلسطينيي الانتفاضات المتواترة، وجديد مبتكرات الفلسطينيين النضالية، أي مسيرات العودة التي بدأت في إحياء غزة ليوم الأرض، تردفهما ويردفانها ولا ينوبان عنها المقاومة، وبين فلسطينيي النهج الأوسلوي، وظهيره العربي. بالنسبة للأخير، لديه برنامجه، وله خياره الذي ثبت أنه لا يملك أن يحيد عنه وأثبت أنه لا يريد أن يحيد، ذلكم ما أكدته تصريحات رئيس السلطة الأخيرة، وعززه تلويحه بالمزيد من العقوبات لغزة المحاصرة التي لم تضمّد بعد جراح مواجهات مسيرة العودة مع المحتلين…أجهزت التصريحات على موهوم “المصالحة”، والبرنامج لا تنقصه استحالة أن يلتقي مع مطلق برنامج وطني مأمول، كما وأن استمرارية التعاون الأمني مع المحتلين في الضفة لإجهاض مسيرات العودة فيها، باعتبارها تستهدف الطرفين المتعاونين. يؤكد التمسّك بذات البرنامج.
وإذا كانت مسيرة العودة كواحدة من الجولات النضالية البطولية لشعب أعزل أسطوري الصمود والتضحيات، في مواجهة جبن القوة الغاشمة ودمويتها، قد أعادت الاعتبار لجوهر الصراع، والذي هو التحرير والعودة، وجسّدت في ساحة المواجهة أنموذجا رائعا للوحدة الوطنية، فمن شأنها أيضا تحفيز إطلاق انتفاضة شاملة في الضفة، ناهيك عن إعادتها القضية إلى مركز الاهتمام رغم تكاتف عوامل صرفه عنها في مرحلة هي الأسوأ في تاريخ الصراع وواقع الأمة، ثم كونها خطوةً اعتراضيةً في مواجهة “صفقة القرن”، والتطبيع مع عدو الأمة، وبوادر الجنوح التحالفي معه.
…لكنها إن لم تتواصل وتتعاظم وتتسع لتعم كافة الجغرافيا الفلسطينية التاريخية، ويرفدها الشتات الفلسطيني وتدعمها جماهير الأمة، وتوازيها المسارعة لتشكيل جبهة وطنية تضم كافة القوى والفصائل والهيئات والفعاليات المؤمنة بخيار المقاومة…جبهة تؤسس لانطلاقة رد الاعتبار لثوابت النضال الوطني التي أرساها الميثاق الوطني الأساس، أي قبل العبث الأوسلوي ببنوده، فلن تكون أكثر من فرصة ضاعت ومحطة نضالية ضُيَّعت.
…إعلان ثلاث من كبرى الفصائل مقاطعتها مجلس وطني رام الله فيه ما قد يرهص ببدايات مبشّرةً بسياق نضالي مأمول وطال انتظاره.

التعليقات معطلة.