مقالات

السياسات الاقتصادية وتكلفتها على المجتمع

 
 
سعود بن علي الحارثي
 
لقد بات مشهد السيارات المتكدسة أمام المنازل في منطقتنا الخليجية أمرا طبيعيا، فللولد والبنت سيارتيهما الخاصة التي تأخذهما إلى الجامعة وللزوجة سيارتها ولرب الأسرة سيارته، وتتعدد السيارات بتعدد أفراد الأسرة كل ذلك بسبب غياب ثقافة ووسائل وخيارات النقل العام، الذي وإن وجد إلا أنه يقتصر على الشوارع العامة وغير مهيأ لاستخدامات الأسر الخليجية..
—-
المستوى العام لدخل المواطن، سلوكيات المستهلك، القوة الشرائية، حجم الأيدي العاملة وقدرة القطاعات الاقتصادية على استيعاب الباحثين عن عمل، السياسات الحكومية في دعم أسعار السلع الاستهلاكية والوقود وخدمات الكهرباء والماء، مستوى الضرائب والرسوم التي تفرضها الجهات المختصة، حجم المشاريع التي تمولها الحكومة والمجالات التي تمتص الموارد المالية والقروض التي تلجأ إليها الحكومات… جميعها محفزات أو معيقات تقف وراء نشاط السوق أو ركوده، ارتفاع الأسعار أو انخفاضها، نمو الاقتصاد أو تراجعه، نجاح سياسات تنويع مصادر الدخل أو فشلها … وقد أخذت الحكومات الخليجية بالخيار الأسهل والأيسر ـ الذي يلجأ إليه حتى المواطن البسيط في مواجهة انخفاض دخله ـ توجهت إلى تطبيق سياسات التقشف وزيادة الضرائب والرسوم ورفع الدعم عن السلع والخدمات ووقف الترقيات… وهي سياسات تضرب الاقتصادات الوطنية والشركات المتوسطة والصغيرة ومشاريع الشباب في مقتل، وتؤدي إلى ضمور السوق وضعفه والانكماش الاقتصادي والتضييق على المواطن وتراجع مستويات الدخل وحياة الازدهار والرخاء وزيادة البطالة… وهو ما نلمسه ونقرأه في كل مفصل من مفاصل الحياة وفي ملامح المواطن الخليجي ونبرات صوته وفي التعبير بوضوح وصراحة في وسائل التواصل التي تضج بالشكوى والغضب، وقبل عدة أشهر قرر مجلس الشؤون المالية وموارد الطاقة في السلطنة تأجيل تطبيق قرارات جديدة بتحديد الرسوم والأثمان والتأمينات والضمانات المالية التي يحصلها قطاع البلديات، وتم (منح فترة سماح حتى الأول من يوليو 2018م للمؤسسات والشركات لتعديل أوضاعها التجارية على ضوء القرارات فيما سيتم تشكيل فريق عمل من الجهات المعنية بضم غرفة تجارة وصناعة عمان لتقييم الآثار المترتبة على تلك القرارات) على خلفية الاحتجاجات الواسعة من قبل المجتمع على تلك القرارات. ولو أخذنا آثار رفع الدعم عن أسعار الوقود مثالا فإن المجتمع يعيش اليوم بين أمنيتين أو رغبتين متناقضتين وهما أن تشهد أسعار النفط انتعاشا وارتفاعا في الأسواق العالمية، وفي المقابل أن تنخفض أسعار الوقود في المحطات في السوق المحلي، فما يجري الآن أن ارتفاعه في السوق العالمي ينعكس ارتفاعا كذلك في السوق المحلي ولهذا التناقض مخاطره الاجتماعية على المواطن ممثلا في حالة من القلق وعدم الاستقرار والفجوة التي تتسع بين مصالحه التي تتآكل من جانب ومصالح اقتصاد بلده المتجه ـ كما يعبر هذا المواطن ـ إلى تسديد عجزه المتراكم من جيوبه، والاقتصادية بارتفاع الأسعار وانكماش السوق من جهة أخرى، مع غياب الخيارات المتمثلة في الصناعات الوطنية وتعدد وسائل النقل ليختار المواطن ما يتناسب مع قدراته المادية. وفي مقال لي نشر قبل عدة سنوات بعنوان (النقل العام معلم من معالم المدينة الحديثة وعلاج لمشكلات كبيرة) طالبت بإنشاء وتطوير شركات للنقل العام في السلطنة بمختلف وسائله وأشكاله حافلات كبيرة ومترو أنفاق وقطارات، وذلك في ظل تنامي عدد السيارات الخاصة وما يشكله ذلك من ضغط على الشوارع وازدحام شديد وتعطيل للمصالح وارتفاع متصاعد لنسبة الحوادث المميتة وتلوث وإزعاج وموازنات باهظة الثمن لتوسعة وصيانة وإنارة وإضافة شوارع جديدة تخفف من وطأة الازدحام، كما أن ثقافة سيارة خاصة لكل مواطن باتت تستنزف جزءا كبيرا من الراتب الشهري خصوصا بالنسبة لذوي الدخول المحدودة بما في ذلك قيمة الوقود. لقد بات مشهد السيارات المتكدسة أمام المنازل في منطقتنا الخليجية أمرا طبيعيا، فللولد والبنت سيارتيهما الخاصة التي تأخذهما إلى الجامعة وللزوجة سيارتها ولرب الأسرة سيارته، وتتعدد السيارات بتعدد أفراد الأسرة كل ذلك بسبب غياب ثقافة ووسائل وخيارات النقل العام، الذي وإن وجد إلا أنه يقتصر على الشوارع العامة وغير مهيأ لاستخدامات الأسر الخليجية، فجاء رفع الدعم عن الوقود ليثقل كاهل الأسر بأعباء جديدة، لم يرافقها ـ كما أشرت في الجزء الأول من المقال ـ توفر وتنفيذ خيارات أخرى يتم الاستغناء بموجبها عن السيارة الخاصة إلى خيار أقل تكلفة، وفي مثل هذه الحالات فإن (الاقتصاد الوطني يخسر الكثير مقابل كل شخص متنقل من مكان إلى آخر، ليس بسبب الازدحام المروري فحسب، وهو خسارة اقتصادية واجتماعية كبرى بلا شك، ولكن أيضا بسبب متوسط استهلاك الفرد المتنقل من البترول وقطع غيار السيارات وتكلفة صيانة الطرق والجسور .. والتي تعني خسارة للاقتصاد الوطني تمثل العملات الأجنبية الجانب الأكبر منها، وفي المقابل أدرك كثير من بلاد الدنيا ومن بينها دول رائدة في تبني مبادئ اقتصاد السوق (الاقتصاد الحر) سلبيات الاعتماد في التنقل بالمدن الكبرى على التدبيرات الشخصية، والسلبيات التي أدركوها ليس من وجهة النظر الاجتماعية فحسب باعتبار أن مثل هذه المبادرات تؤذي مصالح الفقراء ومحدودي الدخل، وإنما أيضا من وجهة نظر الاقتصاد الوطني والمجتمع ككل). إن (المواصلات الجماعية إذا ما تحققت فسوف تخدم طلبة وطالبات الجامعات والكليات الحكومية والخاصة الذين ينتقلون من وإلى السكن إما بوسائل النقل الذي توفره تلك الجامعات والكليات والتي لا تتوافق في معظم الأحيان مع مواعيد محاضراتهم في بدايتها أو انتهائها، وإما بسيارات يوفرها أولياء أمورهم، أو بالتاكسي العادي وفي كل وسيلة من تلك الوسائل مشكلة وعيوب عديدة). إن الكثير من المقالات والمطالبات والدراسات التي أعدت من قبل المؤسسات المتخصصة ومجالس الشورى والكتاب ونشرت في الإعلام قبل سنوات والتي تطالب باعتماد نظام الجمعيات التعاونية والبطاقات التموينية وتطوير شبكات النقل وغيرها من الخطوات العملية لتوفير خيارات متعددة أمام المواطن تخفف من واقع المعيشة وتحدياتها وتقليل التكلفة وتحجم من ارتفاع الأسعار، تستشرف أحداث المستقبل وظروفه وتحدياته التي نعايشها الآن مع التراجع الحاد في أسعار النفط واضطرار الحكومات الخليجية إلى اتخاذ إجراءات متعددة للحد من تأثيرات هذا الانخفاض، ومن بين تلك الإجراءات تحرير أسعار النفط واعتماد آلية التسعير وفقا للأسعار العالمية، والذي رافقته العديد من الآثار الاجتماعية والاقتصادية على المواطن الذي يتنامى قلقه ويتسع بسبب تراجع وتذبذبات أسعار النفط عالميا وتأثيراتها على الاقتصاد الوطني وما يقابلها من إجراءات متخذة برفع الدعم عن بعض الخدمات ومنها أسعار الوقود وزيادة الرسوم والضرائب وتقليص المشاريع، والخوف من إجراءات أخرى قادمة تمس حياته المعيشية وحقوقه وامتيازاته التي حصل عليها، كما أن هذه السياسات والقرارات وبدلا من أن تعمل على تحفيز القطاع الخاص والشركات والمؤسسات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة والقطاعات الصناعية والتجارية والسياحية التي يؤمل أن تسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني ورفع قيمته، قابلها تراجع في العديد من الأنشطة والقطاعات التجارية والعقارية وفي سوق المال وفي أرباح الشركات، وهو ما سيؤدي دون شك إلى تقليص فرص الوظائف وإلى تسريح أعداد من الأيدي العاملة الوطنية والأجنبية وإلى خسائر الشركات المتوسطة والصغيرة خاصة.