أحمد نظيف
لا يكف البحر المتوسط عن القيام بدوره بوصفه أكبر مقبرة للمهاجرين في العالم، بفضل السياسات الأوروبية. في 14 حزيران (يونيو) الماضي، سُجلت آخر الكوارث بغرق قارب صيد لتهريب المهاجرين في المياه الدولية قبالة سواحل بيلوس اليونانية. كان القارب الذي غادر طبرق في ليبيا، حاملاً مئات الهاربين من جحيم الحروب والبؤس، الذي ساهمت فيه صنعه الدول الأوروبية نفسها من خلال التدخلات العسكرية والسياسات الاقتصادية غير العادلة. نجا من الحادثة نحو 104 أشخاص، من بينهم مصريون وسوريون وباكستانيون وأفغان وفلسطينيون، وانتشلت 82 جثة، وهناك مئات آخرون في عداد المفقودين ويُفترض أنهم لقوا حتفهم. هذه ليست أول مأساة في البحر المتوسط، وللأسف قد لا تكون الأخيرة، لكن المسؤول الأول عن هذه الكوارث، الدورية، هو بالتأكيد السياسة الأوروبية بشأن الهجرة واللجوء، والتي تعتبر السياسة اليونانية نسخة سيئة منها. الواقع بسيط بقدر ما هو مأسوي: السياسات المؤسسية والردع المنهجي المطبق على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، من خلال عسكرة الحدود التي تميز السياسة الأوروبية واليونانية في سياسات اللجوء والهجرة، جنباً إلى جنب مع الممارسات غير القانونية مثل انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، وترك اللاجئين تحت رحمة المتاجرين بالبشر، تؤدي في النهاية إلى صناعة هذا الواقع المأسوي. من بين هذه الحقوق المنتهكة، الحق الأساسي في اللجوء كما تقر ذلك اللوائح الدولية والأوروبية لحقوق الإنسان: لكل فرد الحق في طلب اللجوء، من أينما أتى وكيفما وصل إلى البلد الذي قدم فيه طلبه. تهدف سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالهجرة إلى منع الأشخاص من الوصول إلى الحدود الأوروبية، بحيث لا يمكنهم حتى التقدم بطلب للحصول على اللجوء. وهذا انتهاك واضح لاتفاقية جنيف، إلى جانب عمليات “الصد” غير القانونية، التي تتم أساساً حول الجزر اليونانية وكذلك على الحدود التركية، والتي تبدو كأنها مطاردة منظمة على أساس ومنهجي، كما أفاد مجلس اللاجئين اليوناني. ووفقاً لدراسة أجراها المجلس، فإن طريقة عمل خفر السواحل تتسم بالعنف خاصة: رجال الشرطة الذين يرتدون ملابس سوداء، يعتقلون اللاجئين، بمن فيهم الأطفال والرضع، في الليل، ويضعونهم على متن قوارب النجاة قبل دفعهم بقوة في البحر باتجاه تركيا. وغالباً ما يصاحب الأساليب الوحشية التخويف والاعتداء البدني، كما ورد في الشهادات المختلفة في التقرير. إجمالاً، اختفى 940 لاجئاً هذا العام بعد وصولهم إلى جزيرة ليسبوس، وفقاً لبيان صحافي صادر عن منظمة أطباء بلا حدود. ومع ذلك، وبعيداً من ذرائع الأخطاء الفردية، فإن أساليب خفر السواحل اليونانية، المتورطة بوضوح في عمليات الاختفاء هذه وفي كارثة الأسبوع الماضي، هي جزء من “النموذج اليوناني” للهجرة، وهو أحد النماذج التي تسعى دول أخرى مثل إيطاليا لتطبيقها. يتم تنفيذ هذه السياسات داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه. خارجياً: من خلال توفير الدعم المالي واللوجستي والسياسي للأنظمة التي تنتهك الحقوق الأساسية (مثل ليبيا وتونس) لمنع اللاجئين من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. بالطبع، الأمر نفسه ينطبق على الداخل حيث ضاعفت المفوضية الأوروبية المبالغ المخصصة لليونان للفترة 2021-2027 لتعزيز المعدات وأنظمة المراقبة والموارد البشرية لمراقبة الحدود مقارنة بالفترة السابقة. وبذلك تبلغ موازنة مراقبة الحدود 800 مليون يورو، بينما 600 ألف يورو فقط مخصصة لعمليات البحث والإنقاذ. أصبح هاجس الهجرة، حالةً مرضيةً بالنسبة إلى الأوروبيين. ليس فقط اليمين المتطرف والقوى الشعبوية هي من تستعمل هذا الملف ويوظفه، فحتى يمين الوسط أصبح مهووساً بكل أجنبي أو مهاجر، لأسباب يبدو بعضها سياسياً انتخابوياً، وبعضها الآخر مدفوع بمناخ الذعر الذي صنعه اليمين المتطرف وسقط فيها قطاع واسع من الديموقراطيين الليبراليين. هذا الهوس دفع إيمانويل ماكرون وجورجيا ميلوني بعد أشهر من التوترات الدبلوماسية، إلى استئناف الحوار. وقد اتفقا على تعزيز “تعاونهما” من أجل أوروبا المحصنة في وجه المهاجرين. بعد أسبوع من حادث غرق السفينة الأكثر دموية منذ عام 2016 قبالة سواحل اليونان، أوضح ماكرون أنه سيكون داعماً لسياسة السيطرة على الهجرة في الاتحاد الأوروبي، جنباً إلى جنب مع حكومة ميلوني اليمينية المتطرفة. هذا التوافق السياسي الفرنسي – الإيطالي بشأن الهجرة، تجلى واضحاً في الحراك نحو تونس واللقاءات مع الرئيس قيس سعيد لضمان استقرار البلاد حتى يستمر الأخير في لعب دوره كحرس الحدود لأوروبا. وبالفعل، قامت ميلوني، بزيارة أولى للرئيس التونسي مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون لين من أجل أن تعرض عليه مقابل دعمه في قضية الهجرة، وفي ما يتعلق بتصدير الحدود والاحتفاظ بالمهاجرين، نحو 900 مليون يورو لسد عجز الموازنة، منها 100 مليون لمسألة الحدود. لكن رفض سعيد، الذي يريد الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل جمع المزيد من الأموال، وذهب وزير الداخلية الفرنسية دارمانن ونظيرته الألمانية نانسي فيسر إلى تونس. وقدم الوزير الفرنسي عرضاً بمساعدة فرنسية إضافية بنحو 25 مليون يورو، من شأنها أن تدعم مبلغ الـ 100 مليون الذي اقترحه الاتحاد الأوروبي من أجل “الحصول على المعدات اللازمة وتنظيم التدريب المفيد، لا سيما للشرطة التونسية وحرس الحدود لاحتواء التدفق غير المنتظم للمهاجرين وتعزيز عودة هؤلاء المهاجرين”.