يوماً تلو آخر تتوسع قائمة استغناء السوريين عن حاجات واعتياديات وصلوا في بعضها إلى حدّ الإدمان، حتى احتلت على مدار عقود جزءاً أساسياً من يومياتهم على اختلاف ساعاتها وعلى اختلاف أماكن وجودهم، في المنزل أو في العمل أو في الزيارات واللقاءات الشخصية والعائلية والمهنية. فبعد الاستغناء القسري عن اللحوم والفواكه والتسالي التي سجلت أسعاراً لا يمكن التعايش معها وتحمل نفقاتها، باتت الكثير من العائلات السورية تجد أنفسها اليوم مرغمة على التخلي عن مشروب القهوة الصباحي. أسعار مرتفعةيأتي ذلك التخلي القسري ضمن سياسة ضبط المصاريف، فسعر كيلو القهوة الشعبية صار يعادل راتب الموظف، والكيلو من النوع الممتاز يعادل راتبين أحياناً، وقد تحتاج الأسرة وسطيا لنحو 2 كيلو شهرياً بحسب مسح متوسط أجراه “النهار العربي” عبر أسئلة لأشخاص ينتمون إلى شرائح متنوعة من المجتمع، وقد تزيد الكمية أو تنقص تبعاً لعدد مرات شرب القهوة يومياً وتعداد أفراد الأسرة واستقبال الضيوف. وبالضبط وصل سعر كيلو القهوة الممتازة وتسمى (الكولومبية) وهي الصنف الأول إلى نحو 400 ألف ليرة سورية (26 دولاراً أميركياً)، فيما وصل سعر كيلو القهوة الشعبية (البرازيلية) إلى نحو 200 ألف ليرة سورية (نحو 13 دولاراً)، وهذه الأسعار للقهوة الخام من دون هال، فيما يفضل كثر إضافة حبوب الهيل المطحونة إليها فيصير الموضوع كيفياً ويتبع للكمية المضافة لتعود الأسعار وترتفع من جديد إذا يمكن إضافة هيل لحدود 50 ألف ليرة (3 دولارات) على كل كيلو، ويمكن الاستدلال إلى ارتفاع أسعارها المعجز للسوريين بالقياس مع مرتب الموظف الحكومي شهرياً والذي يبلغ متوسطه مئتي ألف ليرة (13 دولاراً).تفضيل الماضيقد تكون الأجيال الحديثة أكثر ميلاً نحو المشروبات الأخرى السريعة التحضير كالنسكافيه والإسبريسو والموكا وغيرها، باعتبار أنّها طارئة في سوريا من حيث انتشارها الذي لا يعود إلى أكثر من عقد، وهذا لا ينفي أنّها كانت موجودة بالطبع، ولكنّها لم تكن تمثل شكلاً من الاستهلاك التجاري الذي يجعلها رائجة، وهو السبب ذاته بالضبط الذي جعل أجيالاً أكثر قدماً غير متقبلة لتلك الأصناف ومتمسكة بالقهوة بكل ما لها وما فيها من ارتباطات في الوعي الجمعي.
احتمالات التخليكانت مي عمّار، وهي موظفة حكومية في دمشق مدمنة على القهوة كما تصف حالتها، إذ كانت تشربها خمس أو ست مرات يومياً، ولكنّها تحت وطأة ظروف اقتصادية جماعية طاحنة اضطرت لأن تغير من عادتها تلك مرغمةً وتحاول أن تقلص مرات لجوئها إلى مشروبها المفضل والمهدئ في كل وقت. تقول عمار: “في كل يوم كانت تتقدم فيه الحرب كنا نفقد شيئاً من امتيازاتنا الحياتية، ثم المعيشية، ثم الرفاهية، ولكن من كان يتوقع أن يصل الأمر إلى حدّ نستغني فيه عن أشياء لا علاقة لها بالرفاهية؟ عن مشروب لا يحسب ضمن أي موازين أو اعتبارات، نعم، راتبي بسعر كيلو قهوة، لذا صرت أشربها في الصباح مرّة، وفي ساعات العصر مرّة، متنازلةً عن بقية أوقات اليوم، ومن يدري، فربما غداً أتنازل عنها في العصر، وبعد غد أتنازل عن شربها في الصباح، وبعد بعد غد أضع فنجان قهوة فارغاً وبجواره كأس الماء، ليظلّ الطقس كما هو ولكن من دون الرائحة التي تنعش عقولنا نحن المعتادين عليها منذ بدايات شبابنا”.
شاي؟ يا للعار!“استبدلت بتقديم القهوة كضيافة الشاي، قضاء أهون من قضاء كما نقول، الشاي أرخص فعلياً، وأكثر ديمومة، السوريُّ اليوم، بعضنا، بات عاجزاً عن تقديم قهوة لزواره، يا للعار الذي لحق بكرمنا”، تقول أم ماهر وهي ربة منزل تقيم في دمشق لـ”النهار العربي”، مشتكيةً من غلاء الأسعار وإحجامها عن شراء القهوة وتناولها ضمن جملة تنازلات معيشية تقدمها عائلتها بغية تأمين القدرة على الاستمرارية بالحد الأدنى. وتضيف أم ماهر: “لا أجد ما أقوله، ولكن هل سيكون غريباً ألّا يكون في منزلنا قهوة وهو لم تدخله اللحوم منذ أشهر طويلة والفواكه كذلك؟ هل يمكن أن يستغرب أحدٌ ما يحصل؟ نحن في بلد يرزح تحت عقوبات شديدة جعلت حياتنا جحيماً، هكذا يقال لنا في كل وقت”. وتتابع: “هذا ليس وقتاً ليعيب فيه السوري على الآخر، أحياناً تزورني جارتي أو صديقتي حتى الشاي لا يكون لديّ لأقدمه لها، تفهم هي ولا تحرجني، كما أفهم أنا حال أيّ أحدٍ أزوره، لا أحد في هذه الأيام يستطيع أن يعيب على الآخرين حالهم، وبالمقابل ثمّة أناس ما زالوا قادرين على تقديم القهوة والتحلية أيضاً، رزقهم الله، أولئك من الميسورين الذين لم تجئ عليهم الحرب كما جاءت على معظمنا”.
هدية في وقتهاحين زار جورج خولي صديقه منذ مدة بعد غياب لم يجد ما يمكن أن يأخذه معه كهدية، وهو عرفٌ يفعله أناس كثر بعد انقطاع طويل في الزيارات، كما يروي لـ”النهار العربي”، وبعد تفكير قرر أن يأخذ معه كيلو قهوة من النوع المتوسط، متفهماً سلفاً أنّ القهوة اليوم صارت عزيزة في المنازل وعزيزة على جيوب الناس. وعن ذلك يقول: “حين أعطيت صديقي الهدية ضحك بشدة، الموقف فعلاً كان مضحكاً، وقال لي: “ما أدراك أنّ القهوة نفدت لديّ؟”، فأجبته أنّها نفدت لدى كلّ السوريين، وعدنا لنضحك من جديد، لا أدري إن كان يمزح حينها وأني فعلاً أنقذت الموقف، ولكني أعرف جيداً أنّ الزيارات صارت ثقيلة، والناس في هذا البلد كرماء لدرجة أنّهم مستعدون لفعل أيّ شيء للقيام بواجب الضيافة، ولكنّ الأيام تمر وتزداد ثقلاً، فهل سنظلّ قادرين على أن نكون كرماء وجيوبنا تذبحها الظروف والأحوال؟”.
خطة اقتصادية منزليةمقابل كل القصص عن أشخاص وعائلات تخلّت وتتخلى أو قلصت وتقلص من استخدام القهوة، هناك أشخاص رفضوا الانصياع لضرورة الواقع، مستندين إلى دخلٍ أفضل من أقرانهم مراتٍ أو إلى تخفيض استهلاك أشياء على حساب أشياء أخرى، بالضبط كما فعلت ربّة المنزل أم جابر المقيمة في ريف دمشق، إذ لجأت إلى سياسة اقتصادية منزلية صارمة جعلتها تتمكن من تحقيق توازن نسبي.عن تلك السياسة تقول: “بدأت بتخفيض سرعة الإنترنت المنزلي وتوفير الفرق، ثم اتجهت نحو المنظفات المتوسطة الأسعار والأقرب إلى الشعبية، وأعددت موازنة شهرية منطقية نقوم فيها باستهلاك حاجاتنا من دون بذخ وليس من دون نقص تام أيضاً، ولكن على حدود أن نتمكن من توفير ما يلزمنا، وإذا كان الحديث عن القهوة فصرنا نشربها مرة واحدة في الصباح فقط، وبقيّة النهار هناك خيارات أخرى أبرزها الزهورات الرخيصة الثمن”.
القهوة وفيروزومن ضمن أولئك الذين لم يتخلوا عن القهوة رولا مؤمن التي تشغل وظيفةً في مؤسسة مصرية خاصة، معيدةً إمكان استمرارها في ممارسة طقوسها مع القهوة لدخلها المرتفع نسبياً والذي يتيح لها الاستمرار في العيش ضمن الحدود المعقولة كما تشرح. وتضيف: “القهوة مرتبطة بفيروز، هل هناك موظف أو عائلة تصحو باكراً ولا يرافقها صوت فيروز؟ وصوت فيروز مع القهوة هما أجمل ما في ذاكرتنا، وبعد كل ما فعلته الحرب بنا سأظلّ أناضل لأقول لنفسي: لا، ليست هناك حرب تستمر للأبد، وعسى لهذه الحرب ألّا تطحننا أكثر”.
القصة أكبر من مشروبالقصة ليست في القهوة وإمكان الحياة معها أو من دونها، بالتأكيد لن يموت الناس من دونها، ولكنّ تكاثف التفاصيل الصغرى كفيلٌ بإحداث شروخ وجدانية في أنفسهم تكمن وتتجسد في التكيف القاهر الذي يجبر السوريين على التخلي كل يوم عن مادة جديدة.