الشرق الأوسط: ماذا وإلى أين؟

4

 

الجزء الرابع عشر:

ترامب والعراق: المبعوث الأمريكي وقطع إرث الديمقراطيين

بعد عقود من التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، يظل العراق محورًا استراتيجيًا، ليس فقط بسبب ثرواته وموقعه الجغرافي، بل كذلك لأنه يمثل اختبارًا مباشرًا لقدرة القوى الكبرى على إعادة تشكيل المعادلات الإقليمية. في هذا الإطار، تأتي خطوة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإرسال مبعوثها إلى بغداد، ليست خطوة بروتوكولية أو دبلوماسية عادية، بل إعلان عملي لاستراتيجية جديدة لإعادة العراق إلى الفلك الأمريكي، وقطع إرث السياسات السابقة التي ساعدت على تمدد النفوذ الإيراني في العاصمة العراقية.
منذ عام 2003، وبعد سقوط بغداد، بدأت العملية السياسية الأمريكية في العراق بمزيج من أهداف إعادة البناء ونشر الديمقراطية، لكنها سرعان ما تحولت إلى عملية معقدة تشوبها الفوضى والانقسام، وأدت إلى تمكين إيران على المستوى السياسي والأمني. الإدارات الأمريكية السابقة، بما فيها بعض الفترات التي حكمها الديمقراطيون، ساهمت بشكل أو بآخر في ترسيخ نفوذ طهران من خلال اتفاقيات سياسية وتوازنات هشة مع النخب العراقية، والتي بدورها لم تضمن استقلال القرار الوطني، وسمحت لتأثير القوى الإقليمية بالنمو داخل الدولة العراقية.
ترامب، وفق منطق “الترامبي” الذي يتسم بالعمليات المباشرة والحسم، يرى أن هذا الإرث السياسي عبء استراتيجي على المصالح الأمريكية. الفشل المستمر للطبقة السياسية العراقية، والفساد المتفشي، والانقسام الطائفي، جعل من العملية السياسية أداة تثبيت نفوذ طهران وليس أداة لبناء الدولة الوطنية. لذلك، لم يكن إرسال المبعوث إلى بغداد خطوة عادية، بل تحرك عملي لإعادة ضبط المعادلة السياسية، وتقليص النفوذ الإيراني، واستعادة السيطرة الأمريكية على المشهد العراقي.
المبعوث الأمريكي الجديد جاء بلا خبرة تفاوضية تقليدية، لكنه مسلح بصلاحيات تنفيذية واسعة، وهو ما يعكس بوضوح أن المطلوب ليس بناء الثقة أو إدارة علاقات دبلوماسية روتينية، بل فرض واقع جديد على الأرض العراقية. هذه الخطوة تأتي بعد تقييم دقيق من الإدارة الأمريكية بأن أي تغيير جذري في العراق لا يمكن أن يتم عبر صناديق الانتخابات أو عبر الحوارات الشكلية التي طالما عرقلت التقدم، بل عبر قرارات صادمة وأدوات تنفيذية مباشرة.
الولايات المتحدة تدرك جيدًا أن العراق لم يعد مجرد ساحة صراع محلية، بل أصبح اختبارًا لمدى قدرة واشنطن على إعادة ترتيب توازنات القوى في المنطقة. إيران استثمرت على مدى سنوات في بناء شبكة من الفصائل المسلحة والتحالفات السياسية داخل بغداد، واستفادت من ضعف النظام السياسي المحلي الذي رافق العملية الديمقراطية بعد عام 2003. وهذا النفوذ لم يقتصر على السياسة فحسب، بل امتد إلى الاقتصاد والمجتمع المدني، ما جعل أي محاولة لإعادة العراق إلى دائرة القرار الأمريكي أكثر تعقيدًا وحساسية.
وصول المبعوث الأمريكي إلى بغداد وسط حشود عسكرية كبيرة وتحركات جوية وبحرية واضحة، لا يمكن تفسيره على أنه مجرد تحرك دبلوماسي تقليدي. إنه رسالة مزدوجة: لإيران أولًا، مفادها أن واشنطن لن تتسامح مع أي نفوذ مفرط لطهران في العراق، وللنخبة العراقية ثانيًا، مفادها أن الأيام التي يمكن فيها الاستمرار بالفساد والانقسام على حساب المصالح الوطنية قد ولّت. هذه الرسالة العملية تعكس تحولًا واضحًا في سياسة البيت الأبيض، من التفاوض والصياغة إلى الحسم والتنفيذ.
بالنظر إلى الخطوات السابقة، يمكن القول إن إدارة ترامب تنفذ استراتيجية تتجاوز العراق نفسه، فهي تضع البلاد في قلب معادلة إقليمية جديدة تمتد من الخليج إلى المتوسط. العراق أصبح في صميم الصراع على النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران، لكن أيضًا بين الإرث السياسي للديمقراطيين والإستراتيجية التنفيذية للإدارة الحالية. العملية السياسية بعد عام 2003 لم تعد مجرد تجربة ديمقراطية، بل صارت منظومة خلقت انقسامات مستمرة، وفتحت المجال أمام التدخلات الإقليمية. والمبعوث الأمريكي، وفق هذه الرؤية، هو أداة لإعادة بناء النظام السياسي على أسس أكثر صرامة، أقل تبعية لطهران، وأكثر توافقًا مع المصالح الأمريكية.
من المهم الإشارة إلى أن هذه الخطوة ليست انعزالية، بل جزء من تقييم استراتيجي شامل. واشنطن تراهن على أن أي محاولة لإعادة العراق إلى دائرة النفوذ الأمريكي تحتاج إلى مزيج من الحسم العسكري، الضغط السياسي، والدبلوماسية العملية. المبعوث يمثل هذا المزيج، إذ يجمع بين القوة الرمزية والممارسة التنفيذية. وهو ليس مجرد وسيط، بل رأس حربة عملية لإعادة رسم المشهد السياسي والاقتصادي في العراق، وتقليص أي نفوذ يمكن أن يشكّل تهديدًا للأمن الأمريكي أو للتوازنات الإقليمية.
الخطوة الأمريكية تؤكد أيضًا أن إرث الديمقراطيين في العراق، الذي سمح بتعاظم النفوذ الإيراني، لم يعد مقبولًا. ما كان يُرى في السابق كخيار سياسي “شبه محايد” أصبح اليوم يُقرأ على أنه عبء استراتيجي على مصالح واشنطن. إدارة ترامب قررت التعامل مع هذا الإرث بشكل عملي، بعيدًا عن المجاملات السياسية أو التصريحات الشكلية، من خلال أدوات تنفيذية قادرة على فرض واقع جديد على الأرض.
وهكذا، يشكل وصول المبعوث الأمريكي إلى بغداد بداية فصل جديد في السياسة العراقية والإقليمية، فصل يرتبط بإعادة ترتيب القوى، ومراجعة السياسات السابقة، وتقليص النفوذ الإيراني، وتعزيز الدور الأمريكي المباشر في اتخاذ القرارات داخل العراق. العراق لم يعد مجرد ساحة صراع محلية أو إقليمية، بل أصبح ميدانًا لتجربة الإدارة الأمريكية في إعادة التوازن الإقليمي بعد سنوات من الانكماش والارتباك.
يمكن القول إن هذا الجزء من سلسلة المقالات يوضح أن العراق، بفعل موقعه الجغرافي وثرواته وحساسية نظامه السياسي، أصبح اختبارًا مباشرًا لاستراتيجية ترامب في الشرق الأوسط. المبعوث الأمريكي الجديد ليس دبلوماسيًا تقليديًا، بل أداة لإعادة كتابة المشهد السياسي العراقي، وقطع إرث السياسات الديمقراطية السابقة، وإعادة العراق إلى الفلك الأمريكي، بعيدًا عن النفوذ الإيراني الذي تمكّن على مدى سنوات طويلة .

يتبع غدا الجزء الخامس عشر: العراق بين مبعوثين… وصراع الإرادتين

التعليقات معطلة.