الشرق الأوسط: ماذا وإلى أين؟ 

4

 

 

الجزء الخامس عشر:

 

العراق بين مبعوثين… وصراع الإرادتين

 

حين يرسل ترامب مبعوثه إلى بغداد، وتردّ طهران بخطوة مماثلة، فإنّ الرسالة واضحة: العراق ليس دولة تُستشار، بل ساحة تُدار. في زمن المبعوثين، تُختصر سيادة الأوطان برسائل متبادلة، ويغيب القرار الوطني بين مطرقة النفوذ الأميركي وسندان التمدد الإيراني.

 

لم يكن وصول مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى بغداد حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل خطوة محسوبة ضمن اختبار جديد لمدى قدرة واشنطن على استعادة موقعها في العراق بعد عقدين من تمدد النفوذ الإيراني. لكنّ المفارقة أنّ طهران لم تتأخر في الرد، فأرسلت مبعوثها الخاص إلى بغداد بعد أيام، في إشارةٍ تعكس أنّ العراق لا يزال في قلب الصراع بين الإرادتين المتنازعتين على رسم مستقبل الشرق الأوسط.

منذ عام 2003، لم يعرف العراق استقلالًا حقيقيًا لقراره الوطني. فقد تحوّل البلد إلى ساحة لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران، وملفًّا مفتوحًا في كل جولة تفاوض بينهما. التفاهمات القديمة التي وُلدت على وقع الاحتلال الأميركي ترسّخت بالنفوذ الإيراني، لكنّها اليوم تترنّح، ومعها يتبدّل ميزان القوى في المنطقة. التحرك الأميركي الأخير يحمل بصمات “ترامب الجديدة”، أي إعادة هندسة المعادلة العراقية عبر مواجهة مباشرة مع منظومة النفوذ الإيراني التي ترسّخت في بنية الدولة منذ 2003. وفي المقابل، تتحرك طهران بقلقٍ واضح، مدركةً أن خسارة العراق تعني خسارة عمقها الاستراتيجي ونقطة ارتكاز مشروعها الإقليمي.

إيفاد مبعوثين في توقيتٍ متقارب لا يمكن قراءته على أنه صدفة دبلوماسية. إنه إعلان غير معلن عن دخول الصراع الأميركي–الإيراني مرحلة جديدة: مرحلة الانتقال من إدارة التوازنات إلى كسر الإرادات. فكلا الطرفين يدرك أن المشهد العراقي لم يعد يحتمل “الرمادية القديمة”، وأن الحسم – سياسياً أو أمنياً – بات خيارًا مطروحًا على الطاولة.

الطبقة السياسية في العراق، كعادتها، تبدو غائبة عن الحدث، تنتظر أن تعرف إلى أي معسكر تميل الرياح. الحديث عن “السيادة” بات مجرد شعار لتسكين الرأي العام، إذ تُدار خيوط اللعبة من خارج الحدود، فيما يكتفي الداخل بدور المتفرج. لقد أصبح العراق أقرب إلى “مكتب اتصال” بين العاصمتين المتخاصمتين، تُسلم فيه الرسائل وتُقرأ فيه النوايا، دون أن يكون له قرار فعلي في مساره أو مآلاته.

إنّ ما يجري اليوم يمكن وصفه بدقّة بأنه صراع إرادتين وصل إلى لحظة المفصل. فإما أن تنجح واشنطن في تفكيك شبكة النفوذ الإيراني داخل العراق وتعيد ترتيب المشهد بما يخدم مشروعها الأوسع في المنطقة، أو تتمكن طهران من امتصاص الهجوم السياسي الأميركي وتعيد تموضعها بثوبٍ جديد يضمن استمرار قبضتها على القرار العراقي.

المشهد العام يُظهر أن التنافس بين القوتين لم يعد محصورًا في النفوذ السياسي أو الاقتصادي، بل بدأ يتجه نحو مرحلة إعادة رسم الخرائط . المنطقة كلها على أعتاب تحول استراتيجي قد يُعيد تعريف موازين القوى، والعراق هو قلب هذا التحول، شاء أم أبى .

 المؤشرات المتسارعة تكشف أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة. فالصراع الأميركي–الإيراني في العراق لم يعد لعبة توازن، بل سباق على من يرسم خطوط النفوذ المقبلة في الشرق الأوسط . العراق يقف اليوم عند مفترق طرق: إما أن يستعيد قراره الوطني ويكسر حلقة الوصاية المزدوجة، أو يظل ساحةً لتقاطع الإرادات، تُدار فيها الأزمات بأدوات الآخرين وتُدفع أثمانها من دماء أبنائه . إنها لحظة الحقيقة، إما عراق القرار… أو عراق الرسائل .

 

يتبع غدا الجزء السادس عشر: “العراق والشرق الأوسط الجديد من ساحة الصراع إلى منصة القرار”

التعليقات معطلة.