الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟

6

 

الجزء السابع عشر:

الرهانات الأمريكية على العراق وقيادة المنطقة

منذ اللحظة التي قررت فيها واشنطن غزو العراق عام 2003، لم تكن رؤيتها محصورة في إسقاط نظامٍ أو نشر ديمقراطيةٍ مفترضة، بل في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط وفق معادلةٍ تضمن بقاء الهيمنة الأمريكية لعقود قادمة. لكن الأحداث المتلاحقة ، من الفوضى إلى صعود الفصائل، ثم تمدد النفوذ الإيراني ، أفرغت المشروع الأمريكي من مضمونه، وجعلت من العراق ساحةً للخيبات بدل أن يكون مركزاً للإشعاع الديمقراطي الموعود. اليوم، وبعد أكثر من عقدين من تلك اللحظة المفصلية، تعود واشنطن إلى العراق برؤيةٍ مختلفة، مدفوعةً بتوازناتٍ جديدة في المنطقة والعالم، لتراهن مجدداً على بغداد، ولكن هذه المرة كقائدٍ لا كعميل، وكشريكٍ في مشروع الاستقرار لا كأداةٍ لإدارة الفوضى.

واشنطن وإعادة صياغة الاستراتيجية
تُدرك الولايات المتحدة أن الشرق الأوسط لم يعد كما كان في العقدين الماضيين. فالعالم يتغير: صعود الصين، تمدد روسيا، اضطراب أوروبا، وتراجع النفوذ الأمريكي في بعض المناطق، كلّها فرضت على واشنطن مراجعة عميقة لاستراتيجيتها. وفي قلب هذه المراجعة، برز العراق من جديد كركيزةٍ يمكن البناء عليها لتثبيت نفوذٍ أمريكيٍّ مرنٍ ومستدام في المنطقة.
الرهان الأمريكي الجديد يقوم على ثلاثة محاور رئيسية:
تحويل العراق إلى مركز استقرار إقليمي يُوازن بين القوى المتنازعة ويمنع انهيار المنظومة الإقليمية.
إضعاف النفوذ الإيراني في مفاصل الدولة العراقية دون إشعال حربٍ مباشرة.
خلق نموذجٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ في بغداد يمكن تقديمه كـ”نقطة ارتكاز” في مشروع الشرق الأوسط الجديد.
واشنطن لا تريد عودة المشهد إلى معادلة “الاحتلال والإدارة المباشرة”، بل إلى نموذج “الشراكة الاستراتيجية” الذي يُبقي القرار السيادي في يد العراقيين، بينما تمسك هي بخيوط التأثير العميق من وراء الستار.

العراق كقلب الاستراتيجية الجديدة
في العهد الحالي، لا تُدار السياسة الأمريكية من منطلقٍ عسكريٍّ بحت كما كان في السابق، بل من منظورٍ جيواقتصاديٍّ وتحالفاتٍ ذكية. العراق، بثرواته النفطية وموقعه الجغرافي الرابط بين الخليج وبلاد الشام وتركيا وإيران، أصبح بمثابة “الجائزة الجيوسياسية” التي لا يمكن التفريط بها.
واشنطن تراهن على أن العراق يمكن أن يتحول إلى:
مركز عبور للطاقة يربط الخليج بأوروبا عبر ممرّات آمنة.
شريك استخباري وأمني في محاربة الإرهاب وضبط الحدود.
نقطة توازن سياسي بين العرب والفرس، وبين الغرب والشرق.
ومن خلال هذا الدور، تريد الولايات المتحدة أن تُعيد إنتاج صورة “العراق المحوري”، لكن هذه المرة ضمن منظومةٍ جديدة لا تشبه عراق ما بعد الاحتلال، بل عراق ما بعد الوعي الشعبي والتحوّل الإقليمي.

الرهان على الجيل الجديد
الولايات المتحدة تدرك جيداً أن القوى التقليدية في العراق لم تعد قادرة على صناعة المستقبل . لذلك بدأ الرهان الأمريكي ينتقل بهدوء نحو الجيل العراقي الجديد، ذلك الجيل الذي خرج من رحم المعاناة، لا يؤمن بالطائفية، ويطالب بدولةٍ مدنيةٍ قادرةٍ على أن تُمثّل جميع العراقيين دون تمييز.
واشنطن ، عبر مؤسساتها ومراكزها الفكرية ، تتابع عن كثب هذا التحوّل في المزاج الشعبي، وتعمل على دعم برامج التنمية والتعليم والإصلاح الاقتصادي التي تخاطب هذا الجيل. ليس حباً بالديمقراطية، بل إدراكاً بأن المستقبل السياسي للعراق لا يمكن أن يُبنى على وجوه الماضي. فالعراق الجديد الذي تراهن عليه واشنطن هو عراق الوعي، لا عراق الولاءات.

بين واشنطن وطهران… مسافة النفوذ تتقلّص
أدركت الولايات المتحدة أن الصدام المباشر مع إيران في العراق سيعيد إنتاج الفوضى التي تحاول احتواءها. لذلك اعتمدت واشنطن سياسة “الإزاحة الصامتة”، أي تفكيك النفوذ الإيراني ببطء عبر أدواتٍ عراقية، ومشاريع تنموية، وإعادة هيكلة العلاقات الإقليمية بما يجعل العراق أكثر انفتاحاً على الخليج والأردن ومصر، وأقلّ تبعية لطهران.
لقد بدأت هذه السياسة تُثمر فعلاً .
انكماش دور الفصائل الموالية لإيران.
صعود خطابٍ وطنيٍّ مدني في النخبة العراقية.
تراجع النفوذ الاقتصادي الإيراني في السوق العراقية.
بهذه الخطوات الهادئة، تُحاصر واشنطن طهران دون أن تطلق رصاصة واحدة، مستفيدةً من تآكل مشروعها الأيديولوجي ومن fatigue داخلي لدى الإيرانيين أنفسهمو.

الشراكة البريطانية الأمريكية
الرهان الأمريكي على العراق لا يقوم وحده، بل يتكامل مع الدور البريطاني الذي يضطلع بمهام “إدارة المشهد” سياسياً ودبلوماسياً. فبينما تمسك واشنطن بالجانب العسكري والاقتصادي، تتحرك لندن على الأرض بهدوء عبر شبكة علاقاتٍ متينة مع النخب العراقية والمجتمع المدني.
هذا التناغم بين العاصمتين يهدف إلى إنتاج نظام سياسي عراقي متماسك يوازن بين حاجات الداخل وضغوط الخارج، ويكون حجر الزاوية في مشروع “الشرق الأوسط المستقر” الذي تُراد ولادته في العقد القادم .

العراق كقائدٍ إقليمي… لا كتابع
الرهان الأمريكي الأهم اليوم ليس على العراق كموقعٍ جغرافي، بل كـ قائدٍ إقليمي محتمل. ففي ظل تراجع أدوار بعض العواصم التقليدية، وانشغال غيرها بصراعاتها الداخلية، ترى واشنطن أن العراق يمتلك المؤهلات القيادية:
تاريخٌ عريق في صناعة القرار العربي.
موقعٌ استراتيجي وسط المنطقة.
طاقات بشرية وثروات طبيعية هائلة.
ووعيٌ شعبيٌّ بدأ يتجاوز الاصطفافات المذهبية.
لذلك تُبنى اليوم الرهانات على أن العراق يمكن أن يتحول إلى مركز القيادة السياسية والاقتصادية في الإقليم، شريطة أن ينجح في إصلاح الداخل، واستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع .

المخاطر الكامنة في الرهان
لكن الرهان الأمريكي ليس مضمون النتائج . فالعراق ما زال يعاني من بنى سياسية هشة، وفسادٍ مؤسسي، وتغلغلٍ عميقٍ للفصائل داخل مفاصل الدولة. وأيّ خللٍ في المعادلة قد يُعيد البلاد إلى مربع الفوضى.
كما أن واشنطن، رغم خبرتها ، لم تدرك بعد أن العراقيين تعبوا من أن يكونوا “رهاناً” لأي قوةٍ خارجية، وأنهم يريدون اليوم شراكةً حقيقية لا وصايةً جديدة. فنجاح المشروع الأمريكي في العراق مرهونٌ بقدرته على احترام السيادة العراقية، ودعم بناء دولةٍ مستقلةٍ فعلاً لا شكلاً.
نحو شرق أوسط جديد… بقيادة عراقية
إذا ما نجح العراق في تحقيق التوازن بين الداخل والخارج، وبين الإرادة الشعبية والرؤية الدولية، فسيكون أمام تحوّلٍ تاريخي. فالشرق الأوسط الجديد الذي تتحدث عنه العواصم الغربية لن يُكتب من تل أبيب أو الرياض أو طهران، بل من بغداد — التي باتت نقطة الالتقاء بين كل خطوط النار والمصالح.
حين يستعيد العراق دوره القيادي، سيُعاد تعريف الأمن الإقليمي، وتُرسم خرائط النفوذ على أساس المصالح لا الطائفية. وذلك هو الرهان الأكبر: أن تتحول بغداد من ساحةٍ تُدار منها الحروب، إلى منصةٍ تُدار منها الحلول .
الرهانات الأمريكية على العراق ليست مغامرة عابرة، بل جزءٌ من مشروعٍ طويلٍ لإعادة ترتيب الشرق الأوسط في ظل عالمٍ يتغير بسرعة. لكن النجاح في هذا الرهان لا يعتمد على واشنطن وحدها، بل على العراقيين أنفسهم: هل يستطيعون تحويل اهتمام العالم بهم إلى فرصةٍ للنهضة، أم يتركونه يتحوّل إلى وصايةٍ جديدة؟
العراق اليوم أمام مفترقٍ مصيري: إما أن يكون رأس الرمح في الشرق الأوسط الجديد، أو الحلقة الأضعف في صراع الإرادات. أما أمريكا، فهي تدرك أن رهانها الأخير في المنطقة ليس على النفط ولا الجغرافيا، بل على وعي شعبٍ يريد أن يصنع مصيره بيده.
فإذا نجح العراق، نجح الشرق الأوسط معه… وإذا تعثّر، فلن ينجو أحد من ارتداد الفوضى.

يتبع غدا الجزء الثامن عشر: “الحاكمية الفارسية بغطاء ديني كيف شوّهت إيران صورة الشيعة العرب”؟

التعليقات معطلة.