الجزء التاسع عشر:
العراق.. من التبعية إلى التوازن ملامح التحول القادم في القرار الشيعي العربي
حين تتحرك الجغرافيا العراقية، تهتز معها خرائط الشرق الأوسط بأكمله. فالعراق، منذ نشأته الحديثة، لم يكن مجرد دولة وسط المنطقة، بل مركز توازن بين الشرق والغرب، والعرب والفرس، والدين والسياسة. واليوم، مع تصاعد الصراع بين مشاريع النفوذ المتقاطعة، يقف العراق مجددًا أمام منعطف تاريخي، يبدو فيه أن التبعية السياسية والفكرية التي فُرضت عليه منذ عام 2003 بدأت تتآكل، لتحلّ محلها ملامح وعي وطني شيعي عربي جديد يبحث عن طريقه نحو الاستقلال والتوازن.
منذ إسقاط الدولة العراقية ودخول النفوذ الإيراني بقوة إلى مفاصل القرار، تحولت الساحة العراقية إلى مختبرٍ لتجارب الآخرين، لا لحلولها الوطنية. فبدل أن يُبنى نظام سياسي نابع من الإرادة العراقية، تم تفصيل نظام محاصصةٍ يضمن لكل قوةٍ خارجية موطئ قدمٍ في الداخل، ويحول المجتمع إلى جماعاتٍ مذهبيةٍ وقوميةٍ متناحرة. غير أن هذه الصيغة التي بدت في بدايتها صلبة، بدأت تتصدع مع تغيّر الأجيال وصعود وعيٍ جديد، خصوصًا داخل المكوّن الشيعي الذي أدرك متأخرًا أن الهيمنة الخارجية لم تُنصفه، بل صادرَت اسمه لتغطي مشاريع غير عراقية.
إن الجيل الجديد من الشيعة العرب، الذي نشأ بعد 2003، بات يرى في نفسه وريثًا لتجربةٍ قاسيةٍ من التهميش المزدوج: تهميشٌ من الداخل السياسي الفاسد الذي حكم باسمه، وتهميشٌ من الخارج الذي وظّف مذهبه لتبرير التبعية. هذا الجيل بدأ يعبّر عن ذاته بطرق مختلفة، لا عبر السلاح أو الشعارات الدينية، بل عبر خطابٍ وطنيٍّ جديد يستعيد المرجعية الأخلاقية والفكرية للنجف، ويعيد تعريف العلاقة بين الدين والوطن.
التحول الجاري اليوم في العراق لا يُقاس بعدد المقاعد في البرلمان أو حجم الكتل، بل يُقاس بتحوّل الوعي الجمعي داخل المجتمع الشيعي العربي، الذي بدأ يُميّز بين من يتحدث باسمه، ومن يتحدث عنه. وهنا تظهر ملامح ما يمكن تسميته بـ “القرار الشيعي العربي المستقل”، وهو مشروع لا يقوم على القطيعة مع الآخرين، بل على استعادة التوازن المفقود في العلاقة بين العروبة والمذهب، بين الإيمان والسياسة، وبين الوطنية والانتماء الإنساني.
لقد سعت إيران، طيلة عقدين، إلى تثبيت نفوذها عبر أدواتٍ داخليةٍ تحمل ولاءً مزدوجًا، لكنها لم تدرك أن الوعي العراقي – وخصوصًا النجفي – لا يمكن ترويضه طويلاً. فكما قاومت النجف الهيمنة البريطانية مطلع القرن الماضي، فإنها اليوم تقاوم الهيمنة الفارسية المقنّعة بالولاية، وتعمل بهدوءٍ على إعادة صياغة الهوية الدينية بعيدًا عن التسييس. وما يشهده العراق اليوم من حراكٍ فكريٍّ وشعبيٍّ هو بداية هذا التحول.
إن المرجعية العربية في النجف، بطابعها الأخلاقي والإنساني، تمثل حجر الزاوية في هذا التحول. فهي لا تنافس على سلطةٍ سياسية، بل تسعى إلى إعادة تعريف معنى الحاكمية من جديد: حاكمية الضمير، لا حاكمية الولاية. فحين يعود صوت النجف إلى مركز القرار الروحي والفكري، يعود معه التوازن إلى المذهب، والاعتدال إلى السلوك، والعقل إلى السياسة. ومن هنا نفهم لماذا كانت إيران، ومن قبلها بريطانيا، حريصتين على تحييد النجف وإضعافها، لأن بقاءها مستقلة يعني فشل مشروع الوصاية على الشيعة العرب.
التحول المنتظر في العراق لن يكون سريعًا، لكنه بدأ فعلاً. ملامحه تظهر في تراجع نفوذ الخطاب المذهبي المتشدد، وفي تصاعد صوت الهوية الوطنية الجامعة التي تتقدم على الولاءات الطائفية. تظهر في الوعي الشعبي الذي بدأ يرفض “الوصاية السياسية باسم الدين”، ويطالب بدولةٍ مدنيةٍ لا تعادي المذهب ولا تستغله. وتظهر في الحركات الشبابية والمجتمعية التي تعيد تعريف الوطنية العراقية بعيدًا عن القوالب القديمة التي فُرضت بعد 2003.
هذا التحول لا يعني القطيعة مع إيران، بل تحويل العلاقة من تبعيةٍ إلى توازن، بحيث تصبح المصالح مشتركة، لا مفروضة. فالعراق القوي المستقل لا يُهدد أحدًا، بل يُعيد المنطقة إلى منطق الشراكة بدل الوصاية. والعراق الذي يستعيد قراره الشيعي العربي لن يكون ساحةً للنفوذ، بل جسرًا بين المشرق والمغرب، بين العرب والفرس، بين الإسلام والعصر.
وربما يمكن القول إن استعادة القرار الشيعي العربي ليست نهاية الصراع، بل بداية شرق أوسط جديد، يقوم على استقلال الهويات لا استغلالها، وعلى المصالح المتبادلة لا المشاريع العابرة للحدود. حينها فقط يمكن أن نتصور عراقًا متوازنًا يعيد للعروبة روحها، وللتشيع نقاءه، وللمنطقة استقرارها.
إن العراق، الذي أنهكته الحروب والانقسامات، يملك اليوم فرصة تاريخية لأن يتحول من ساحة صراع إلى منصة قرار. ومتى ما تحرر القرار الشيعي العربي من هيمنة الخارج، سيتحرر العراق كله، لأن التوازن يبدأ من المركز. وهذا المركز لم يكن يومًا طهران، بل النجف التي بقيت رغم كل محاولات الإقصاء، حارسةً للعقل العربي، وحافظةً لضمير الإسلام الإنساني.
وهكذا، فإن التحول من التبعية إلى التوازن ليس شعارًا سياسيًا، بل مسار وعيٍ طويل بدأ يتشكل في العقول والقلوب. فحين يدرك العراقيون – وفي مقدمتهم الشيعة العرب – أن خلاصهم لا يأتي من الخارج، بل من وحدة الداخل، عندها فقط سيكتمل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طال انتظاره .
يتبع غدا الجزء العشرون: “التهدئة المؤقتة… أم التفكيك الهادئ للمعادلة؟”

