الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟

4

 

 

الجزء الثاني:

 

من غزة إلى طهران… الطريق إلى معادلة الشرق الأوسط الجديدة

 

منذ السابع من أكتوبر تغيّر وجه المنطقة. لم تعد حرب غزة مجرد مواجهة بين إسرائيل وحماس، بل تحولت إلى لحظة مفصلية أعادت رسم خريطة الصراع من سواحل المتوسط إلى جبال زاغروس. الحرب التي بدأت بصواريخ، انتهت بإعادة فتح كل الملفات المغلقة، إذ لم تعد غزة سوى العنوان الأول في كتاب التحول الأكبر… والصفحات التالية تُكتب في طهران.

منذ عقود بنت إيران نفوذها على قاعدة “القتال خارج الحدود”، فحوّلت الفصائل في لبنان واليمن والعراق وسوريا وغزة إلى أذرعٍ إقليمية تردع الخصوم وتوسع نطاق التأثير. لكن حرب غزة كانت المرآة التي كشفت هشاشة هذه الاستراتيجية؛ إذ لم تعد جبهات الوكلاء قادرة على الصمود، ولا الشعارات الثورية كافية لتغطية التآكل الداخلي في الاقتصاد والسياسة والمجتمع الإيراني.

في المقابل، أدركت إسرائيل أن الحرب بالوكالة لم تعد تحقق أمنها، وأن المعادلة الجديدة تقتضي مواجهة مركز القرار لا أطرافه. هكذا، بدأ التفكير الغربي – الإسرائيلي في مرحلة “ما بعد الوكلاء”، أي الانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه عبر تقويض الركيزة الإيرانية التي قامت عليها منظومة “المقاومة”.

الشرق الأوسط اليوم يقف على حافة توازنٍ جديد تتقاطع فيه الحسابات الأميركية مع الإصرار الإسرائيلي والتردد الإيراني. واشنطن تحاول تأجيل الحرب الشاملة قدر المستطاع، خشية انفجار إقليمي يخلط أوراقها في أوكرانيا والشرق الأقصى. إسرائيل تستعد لمرحلة تصفية دقيقة — تبدأ من الأطراف: العراق، سوريا، ولبنان — قبل الوصول إلى طهران. أما إيران، فبين خيارين أحلاهما مرّ: مواجهة مفتوحة تهدد بقاء النظام، أو مناورة سياسية تُبقي مشروعها حيًّا ولو على حساب نفوذها في بعض الساحات.

في هذا المشهد، تحولت غزة من ساحة اشتباك إلى نقطة التحول الكبرى التي كشفت نهاية زمن الحروب الصغيرة وبداية زمن المعادلات الكبرى. بعد “غزة 2023”، لم يعد الصراع على الأرض فقط، بل على هوية النظام الإقليمي القادم ومن سيكتب قواعده.

تتبدّل التحالفات، وتتراجع الأيديولوجيات، ويعلو صوت المصلحة فوق الشعارات. إسرائيل تبحث عن تثبيت نفوذها ضمن محور بريطاني – خليجي – عراقي محتمل. إيران تعيد حساباتها في ضوء الخسائر التي طالت صورتها ودورها. أما العواصم العربية الكبرى، فاختارت الواقعية السياسية: لا عودة إلى شعارات الماضي، بل شراكة في نظام شرق أوسطي جديد يُدار بلغة المصالح لا بالعواطف.

المنطقة تتجه نحو تسويات كبرى تُرسم خلف الأبواب المغلقة: تفاهم أمني – سياسي يحدد حدود الصراع بين إسرائيل وإيران، وعودة العراق إلى موقعه التاريخي كقطب توازن بين المحاور المتصارعة، وتقليص الوجود الإيراني في سوريا مقابل اعتراف روسي محدود بدوره هناك، وإعادة إحياء مشروع “حل الدولتين” لتغطية الترتيبات الجديدة تحت مظلة دولية.

من غزة إلى طهران، تتكشف ملامح شرق أوسط يولد من رحم الانفجار. شرق لا يشبه ما قبله، لأن ميزان القوة تغيّر، واللاعبين تبدّلوا، والعراق سيعود من جديد كقطب الرحى بين الانفجار والتوازن .

 

 

(يتبع السبت الجزء الثالث سوريا… قلب الصراع بين الاستقلال الوطني والانكفاء الإيراني)

التعليقات معطلة.