الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟

13

 

الجزء الرابع والعشرون:

العراق بين احتلالين… وميلاد معادلة جديدة للشرق الأوسط

بعد أكثر من عقدين على سقوط بغداد، يبدو أن العراق يقف اليوم عند مفترق طرق جديد، لا يقل خطورة عن مفترق عام 2003. لكنه هذه المرة ليس بين غزوٍ عسكري وآخر، بل بين احتلالين غير متماثلين: الاحتلال الأمريكي المباشر الذي غيّر شكل الدولة، والاحتلال الإيراني غير المعلن الذي صاغ مضمونها وسياستها لعقدين من الزمن.
الهدوء النسبي الذي يخيّم على الساحة العراقية هذه الأيام ليس استقرارًا حقيقيًا، بل مرحلة انتقالية دقيقة تمهّد لإعادة ترتيب النفوذ الإقليمي داخل العراق، كجزء من عملية إعادة رسم التوازن في الشرق الأوسط.
العراق بين الاحتلالين: موازنة النفوذ لا التحرر منه
لم يعد العراق مجرّد ساحة صراع بين القوى الكبرى، بل تحوّل إلى مسرحٍ لتطبيق استراتيجيات إعادة التموضع. فالاحتلال الأمريكي، وإن انسحب عسكريًا، ترك مؤسساته وهياكله الأمنية والسياسية تعمل كظلاله داخل الدولة. أما الاحتلال الإيراني، فقد تمدّد عبر أدوات ناعمة: الفصائل، الأحزاب، والولاءات الاقتصادية، لكنه اليوم يواجه ضغوطًا غير مسبوقة.
واشنطن تعمل على إعادة ضبط المشهد الأمني والسياسي بعد تجربة “سافايا”، في حين يسعى محور بريطانيا – إسرائيل إلى تثبيت نفوذه عبر الدبلوماسية والمشاريع الاقتصادية، بينما تحاول طهران الحفاظ على مكاسبها السابقة بقدرٍ من الحذر والمرونة.
بهذا المعنى، يعيش العراق اليوم منطقة رمادية بين التحرر والهيمنة: لا استقلال كامل، ولا سيطرة مطلقة، بل توازن هشّ بين قوى داخلية وخارجية تتقاطع مصالحها فوق أرضه.
مؤشرات نهاية المرحلة
هناك دلائل متزايدة على أن مرحلة “العراق بين الاحتلالين” تقترب من نهايتها، من أبرزها:
إعادة توزيع السلطة: الاتجاه نحو دمج الفصائل المسلحة ضمن مؤسسات الدولة، وتضييق المساحات أمام النفوذ الخارجي المباشر.
تحول أدوار القوى الدولية:
أمريكا تتجه إلى إدارة غير مباشرة عبر الحلفاء المحليين.
بريطانيا تعود بأسلوب نفوذ ناعم يستند إلى الاقتصاد والدبلوماسية.
إسرائيل تواصل مراقبتها الدقيقة لموازين القوى في بغداد.
تراجع النفوذ الإيراني التقليدي: الفصائل الولائية تفقد استقلالها المالي والسياسي، وتحاول التكيّف مع واقع جديد تفرضه تفاهمات دولية صامتة.
العراق كمختبر لمعادلة الشرق الأوسط الجديدة
اليوم، العراق هو مختبر المعادلة الإقليمية الجديدة. فأي نجاح في ضبط توازن النفوذ داخله سيشكّل نموذجًا لتسوية أوسع في الشرق الأوسط، وأي فشل قد يعيد المنطقة إلى دائرة الصراع المفتوح، أو يفتح الباب أمام صعود نفوذ إقليمي جديد.
وفي عمق هذه الصورة، يبرز التحالف الغربي الجديد (أمريكا – بريطانيا – إسرائيل) كمشروع لإعادة هندسة المنطقة على أسس ما بعد النفوذ الإيراني، مع الحفاظ على التوازن دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة .
يقف العراق اليوم أمام استحقاق تاريخي مزدوج: إما أن ينجح في الدخول إلى مرحلة الاستقلالية النسبية التي تنهي فعليًا حقبة الاحتلالين، أو أن يبقى عالقًا في حلقة النفوذ المزدوج، حيث تتحكم القوى الخارجية في مفاصل الدولة بصمتٍ ودبلوماسية، دون حاجة إلى دبابات أو شعارات.
إن ما يجري في العراق ليس شأنًا داخليًا بحتًا، بل اختبارٌ لمستقبل الشرق الأوسط بأسره، وللقدرة الغربية على صياغة معادلةٍ جديدة تُنهي نصف قرنٍ من الصراع عبر أدوات أقل ضجيجًا وأكثر دهاءً.

يتبع غدا الجزء الخامس والعشرون: “من بغداد تبدأ المعادلة… ملامح الشرق الأوسط القادم”

التعليقات معطلة.