الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟

15

 

الجزء الخامس والعشرون:

من بغداد تبدأ المعادلة… ملامح الشرق الأوسط القادم

يبدو أن الشرق الأوسط يقف اليوم على أعتاب مرحلة إعادة التكوين الكبرى، حيث لم يعد الصراع بين دولٍ وجيوش، بل بين مشاريع نفوذ متداخلة تسعى لإعادة رسم الخريطة من الداخل لا من الحدود. فما بدأ في العراق لم يكن سوى البوابة الأولى لمرحلة جديدة تتّجه فيها المنطقة نحو نموذج مختلف من السيطرة: سيطرة ناعمة، تُدار بالعقود والمصالح والتحالفات، لا بالمدافع ولا بالانقلابات.
من العراق تبدأ المعادلة
العراق اليوم هو نقطة الانطلاق للمعادلة الغربية الجديدة في الشرق الأوسط، بعد أن انتهت مرحلة ازدواجية النفوذ الأمريكي–الإيراني. فالمشروع الغربي لم يعد يبحث عن حليف واحد مهيمن، بل عن توازنات مرنة تسمح بإدارة المنطقة دون احتلالٍ مباشر أو صدامٍ مفتوح.
وتبدو بريطانيا وإسرائيل في طليعة هذا التحول؛ فهما تسعيان إلى بناء شرق أوسط متكامل اقتصاديًا، متفاهم أمنيًا، متجاوز لخطاب الصراع القديم، على أن يكون العراق مركزه الجديد بعد أن فقدت طهران أهلية قيادة أي محور.

إيران: نهاية الدور لا نهاية الدولة
لم تعد إيران كما كانت قبل عقدين، فمشروعها التوسعي الذي استند إلى الفصائل والولاءات العابرة للحدود بدأ يتآكل أمام تفاهمات دولية صامتة، وحصار اقتصادي غير معلن، واستنزاف متواصل في ساحات النفوذ. لكن إسقاط إيران ليس هدفًا مباشرًا، بل المطلوب هو تحويلها إلى لاعب منضبط داخل قواعد اللعبة الجديدة، تمامًا كما حدث لتركيا بعد تراجع مشروعها الإخواني.
فالنظام الدولي الجديد لا يريد إسقاط الأنظمة، بل إعادة هندستها لتخدم التوازن الجديد، والعراق هو الميدان التجريبي لهذه الهندسة.

واشنطن… من الحروب إلى الإدارة عن بُعد
الولايات المتحدة لم تغادر الشرق الأوسط فعليًا، لكنها غيّرت أدواتها. فبدل الجيوش، هناك قواعد محدودة وقوى محلية تدار بذكاء سياسي واقتصادي. تترك الساحة لحلفائها يديرون التفاصيل:
بريطانيا تمسك بخيوط الدبلوماسية.
إسرائيل تدير المراقبة الأمنية والتكنولوجيا.
الولايات المتحدة تحفظ القرار الاستراتيجي الأعلى.
بهذا التوزيع، تتحول السيطرة من الاحتلال إلى الإدارة، ومن المواجهة إلى التحكم عبر منظومة مصالح متشابكة.

شرق أوسط بلا شعارات
المرحلة القادمة ستكون شرق أوسط بلا أيديولوجيا. لا شعارات ثورية، ولا مشاريع أممية، بل مصالح ومشاريع تنموية تقودها تحالفات اقتصادية وأمنية متشابكة. تتراجع اللغة الطائفية لصالح لغة “الاستقرار المنتج”، ويُعاد تعريف الصراع من ديني وقومي إلى تنافسي على مصادر الطاقة والربط التجاري والبنية التحتية.
ومن هذا المنظور، فإن العراق ومحيطه العربي لن يعودا ساحة لصراع المحاور، بل عقدة الربط في مشروع الشرق الأوسط الجديد الممتد من المتوسط إلى الخليج.

من المعادلة إلى النظام
ما يجري ليس مجرد إعادة تموضع، بل ولادة نظام شرق أوسطي جديد يُبنى على توازن دقيق بين الغرب وإسرائيل والدول العربية المستقرة، ويُدار بمنطق الشراكات لا الصراعات. قد لا يكون هذا النظام عادلًا من منظور الشعوب، لكنه سيكون الأكثر استقرارًا منذ نصف قرن، لأنه ببساطة يخدم مصالح القوى الكبرى مجتمعة.
وسيكون العراق ، مرة أخرى ، حجر الزاوية في هذه المعادلة، ليس لأنه الأقوى، بل لأنه الأقدر على عكس توازن القوى الجديد بين الغرب وإيران والعرب.

الشرق الأوسط يدخل طورًا جديدًا لا يشبه ماضيه، طورًا يُدار من العواصم لا من الجبهات، تُرسم حدوده بالاقتصاد لا بالبارود، وتُدار صراعاته من داخل الأنظمة لا على حدودها.
لقد بدأ زمن الشرق الأوسط بعد إيران، زمن يعاد فيه تشكيل مراكز النفوذ بهدوء، حيث تُكتب خريطة المنطقة الجديدة من بغداد إلى تل أبيب… ومن لندن إلى الرياض .

يتبع السبت المقبل الجزء السادس والعشرون:” العراق بين أنصاف الحلول واستحقاق التغيير الجذري”

التعليقات معطلة.