الجزء السادس والعشرون:
العراق بين أنصاف الحلول واستحقاق التغيير الجذري
تبدو المرحلة التي يدخلها العراق اليوم مرحلة أنصاف الحلول، لا الحلول الجذرية، وهي سمة عامة باتت تطبع المشهد الشرق أوسطي برمّته. فكما تدير القوى الدولية ملفات المنطقة بسياسة “التهدئة المؤقتة” و“الإصلاح القابل للارتداد”، يُدار العراق بذات المنهج، في محاولة لإبقاء التوازن القلق قائمًا من دون أن يُسمح له بالتحوّل إلى نظام مستقرّ أو دولة مكتملة.
بين الخارج الممسك بخيوط اللعبة والداخل العاجز عن القرار
منذ عام 2003، تحوّل العراق إلى ساحة صراع إرادات أكثر من كونه دولة فاعلة. الأميركي لا يريد انهيار النظام لأنه ما زال يخدم معادلة “الاحتواء”، والإيراني لا يريد إصلاحه لأنه يُغذّي نفوذه، والعرب ينظرون إليه كملفّ مؤجّل إلى أن تُحسم معركة النفوذ مع طهران.
أما الداخل، فقد استنزفه الانقسام الطائفي والفساد والولاءات المتعددة، حتى باتت كل محاولة للإصلاح تصطدم بجدار البنية التي صُنعت أصلًا لمنع الإصلاح. وهكذا أصبح أقصى ما يمكن تحقيقه هو “التعايش مع الفشل”، وتدوير الأزمات بدلًا من حلّها.
السوداني نموذج المرحلة الرمادية
يمثل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تجسيدًا حيًا لمرحلة “التوازن الإجباري”. فهو يحاول أن يرضي الجميع: واشنطن، وطهران، والشارع العراقي، دون أن يمتلك أدوات تغيير حقيقية. حكومته أقرب إلى إدارة الأزمة لا معالجتها، وإلى “الترميم” أكثر من “البناء”. تتحرك ضمن هوامش ضيقة، وتكتفي بسياسات تهدئة ظاهرية، فيما الجذر العميق للأزمة — والمتمثل في احتكار الفصائل للسلطة والمال والسلاح — يبقى خارج نطاق المساءلة.
أنصاف الحلول… وقود الانفجار القادم
أنصاف الحلول في التاريخ العراقي ليست سوى هدنة بين أزمتين. من اتفاقات المحاصصة، إلى الانتخابات الشكلية، إلى المبادرات الاقتصادية المؤقتة — كلّها كانت مسكنات سياسية لعجز النظام عن إنتاج نفسه من جديد. لكن كل تسوية ناقصة تُراكِم ضغطًا جديدًا في المجتمع، وكل تأجيل للمحاسبة يولّد غضبًا أكبر.
إن التوازن الهشّ الذي يُحافظ عليه الخارج لن يصمد طويلًا أمام تآكل الداخل، وحينها سيكون العراق مجددًا أمام مفترق طرق: إما الانفجار الشعبي، أو التحول الجذري بإرادة وطنية مدعومة بإرادة دولية جديدة.
انتخابات 11/11… إعادة إنتاج الفشل أم بداية نهاية منظومة الوصايا؟
جاءت انتخابات 11/11 لتكشف عمق الأزمة البنيوية في النظام السياسي العراقي، إذ فازت فيها القوى ذاتها التي رفضتها الأغلبية الشعبية، ليس لقوتها، بل لأن الشعب اختار المقاطعة الواسعة كصرخة احتجاج على نظام انتخابي مشلول لا يمثل الإرادة العامة. وهكذا وجد العراقي نفسه أمام مشهد يلخص المأزق: قوى مرفوضة شعبياً تعود عبر صناديق شبه فارغة، وشعب يزداد يقينًا بأن التغيير لن يأتي من داخل اللعبة بل من خارجها.
غير أن هذه القوى التي احتفلت بعودة شكلية إلى البرلمان ستصطدم قريبًا ببيئة دولية وإقليمية مختلفة كليًا عن سابقاتها. فواشنطن لم تعد تتعامل مع العراق كمساحة لتقاسم النفوذ مع إيران، بل كحلقة أساسية في استراتيجية “تقليص الأذرع” وتحجيم قدرة طهران على التأثير الأمني والسياسي عبر وكلائها.
ومع أن النتائج منحت بعض الأحزاب الموالية لإيران مساحة سياسية، إلا أن تشكيل الحكومة المقبلة لن يكون بالمواصفات التي اعتادت عليها طهران، لأن الإقليم والعالم يتحركان اليوم باتجاه إعادة هندسة النفوذ، لا تكريسه.
وهكذا تجد القوى الفائزة نفسها أمام معادلة خانقة:
فوز بلا شرعية شعبية.
ضغط دولي يرفض الصيغة القديمة.
إقليم يشعر بضرورة إنهاء “زمن الميليشيا”.
وشارع وطني متحفز يمتلك وعيًا غير مسبوق.
إن الحكومة المقبلة — مهما تشكلت — ستكون حكومة انتقال اضطراري، أو إدارة في زمن التقلّبات، لأن الظروف الداخلية والخارجية لا تسمح بإعادة إنتاج نفس النظام الذي استندت إليه قوى ما بعد 2003.
وهذا ما يجعل انتخابات 11/11 علامة فاصلة: آخر انتخابات شكلية قبل التحول الأكبر الذي سيفرضه الشارع أو الإرادة الدولية أو كليهما معًا. فالعراق يقترب من لحظة الحسم؛ لحظة تسقط فيها أنصاف الحلول ويتقدم مشروع التغيير الجذري.
انعكاس لصورة الشرق الأوسط كله
العراق ليس حالة استثنائية، بل هو صورة مصغرة لما يجري في الشرق الأوسط بأكمله: سوريا تدار بأنصاف الحلول، لبنان يُجمّد عند حافة الانهيار، اليمن ينتظر صفقة متأخرة، وفلسطين غارقة في إدارة أزمات لا حلول لها. إنها مرحلة “تسكين الجراح لا مداواتها”، حيث تتفق القوى الكبرى على إبقاء المنطقة في حالة لا حرب ولا استقرار، إلى أن تتضح ملامح النظام الدولي الجديد.
العراق اليوم يعيش زمن التسويات المؤقتة، لكنه يقترب في الوقت نفسه من لحظة التحوّل المحتوم. فلا دولة يمكن أن تبقى معلّقة إلى ما لا نهاية بين الفوضى والنظام، ولا شعب يمكن أن يتصالح مع الفشل طويلًا. وحين تتبدّل المعادلات الدولية والإقليمية، سيكتشف الجميع أن أنصاف الحلول لم تكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة الكبرى — عاصفة التغيير الحقيقي التي لا مفرّ منها.
يتبع غدا الجزء السابع والعشرون:”القوى السياسية أمام معضلة الرفض الشعبي وتنامي الوعي الوطني ضدها”

