(الجزء السابع والعشرون)
القوى السياسية أمام معضلة الرفض الشعبي وتنامي الوعي الوطني ضدها
لم تكن الأزمة في العراق يوماً أزمة إدارة أو خدمات أو حتى فسادٍ مالي فحسب، بل كانت أزمة بنيوية في منظومةٍ سياسية وُلدت برعايةٍ دولية، ونُسجت خيوطها على أساس المحاصصة والولاءات الخارجية أكثر مما بُنيت على مفهوم الدولة والمواطنة. هذه المنظومة التي تشكّلت بعد عام 2003، وامتد تأثيرها إلى عمق الشرق الأوسط، تواجه اليوم أخطر مراحلها منذ التأسيس: مرحلة انعدام الشرعية الشعبية وتآكل القبول المجتمعي.
إنّ ما يشهده العراق اليوم من تنامٍ في الوعي الوطني واتساع دائرة الرفض الشعبي ليس حدثاً عابراً أو ظرفاً احتجاجياً مؤقتاً، بل هو تحول في الوعي الجمعي ناتج عن تراكم الإخفاقات، ونتيجة حتمية لعقدين من التلاعب بمصير البلاد ومقدراتها. هذا الوعي الوطني المتصاعد أخذ يتجاوز الشعارات الطائفية والمذهبية التي اعتادت القوى السياسية استخدامها كأدواتٍ للهيمنة والتعبئة، وبات يطرح سؤالاً وجودياً على الجميع: من يملك شرعية تمثيل الشعب فعلاً؟
لقد فقدت القوى السياسية عمقها الشعبي تدريجياً حتى باتت اليوم في عزلةٍ شبه تامة. لا الحشود التي تُستَنفَر في المناسبات قادرة على إخفاء الفجوة، ولا البيانات والوعود قادرة على استعادة الثقة. الشارع بات يرى أن تلك القوى تمثل مصالحها الخاصة أو مصالح داعميها الخارجيين، وليس مصالح العراق. وهنا تكمن خطورة اللحظة السياسية، لأنّ العزلة الداخلية تقترن اليوم بإدراكٍ دولي عميق لهذه الحقيقة.
الفاعل الدولي – الذي كان راعياً لتأسيس النظام السياسي بعد عام 2003 – يدرك تماماً أن المنظومة التي أنشأها تفقد شرعيتها تدريجياً، وأن استمرارها بهذه الصيغة سيقود إلى انفجار اجتماعي يصعب احتواؤه. فالمجتمع الدولي، وإن كان يسعى إلى الحفاظ على استقرارٍ شكلي في العراق، إلا أنه لا يمكنه المجازفة بانهيارٍ كامل للنظام الذي شكّل أحد أعمدة التوازن في الشرق الأوسط. لذلك، بدأ هذا الفاعل الدولي يعيد حساباته تجاه القوى التقليدية التي أثبتت عجزها عن الإصلاح وفشلها في تمثيل إرادة الشعب.
هذا الإدراك الدولي الجديد لا ينبع من حرصٍ أخلاقي على الشعوب، بقدر ما هو وعي استراتيجي بمخاطر استمرار نظامٍ منزوع الشرعية. فحين يفقد النظام السياسي حاضنته الشعبية، يصبح من السهل على أي قوة داخلية أو خارجية استغلال الفراغ والاضطراب. ومن هنا، تتجه الإرادات الدولية إلى التفكير في “تعديل شكل النظام” دون المساس بجوهر التوازن الذي أُقيم عليه — أي الحفاظ على الاستقرار الظاهري مع إدخال قوى جديدة أكثر قبولاً جماهيرياً وأقل ارتباطاً بالوجوه القديمة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل يمكن للنظام الذي وُلد مشوّهاً أن يُصلح نفسه، أم أن التغيير الحتمي بات قدراً لا مفر منه؟
الجواب الأوضح يأتي من الشارع العراقي نفسه. فجيل ما بعد تشرين 2019، وما تلاه من حركات واحتجاجات متفرقة، أثبت أن الإصلاح من داخل المنظومة مستحيل، وأن القوى الحاكمة غير قادرة على إنتاج بدائلٍ إلا من رحمها ذاته، ما يعني إعادة تدوير الفشل بأسماءٍ جديدة. في المقابل، تتشكل في الوعي الوطني ملامح بديلٍ قادم، لا يعتمد على الأطر الحزبية التقليدية، بل على مفهوم وطني جامع، يسعى لبناء دولةٍ مستقلة الإرادة، خالية من التبعية، ومرتبطة بعلاقات دولية قائمة على المصالح المتبادلة لا الوصاية.
لقد أصبح من الواضح أن القوى السياسية لم تعُد تواجه المعارضة الشعبية فقط، بل تواجه فقداناً تدريجياً في شرعية الوجود ذاته. ومن المفارقات أن القوى التي طالما احتمت بدعم الخارج، تجد نفسها اليوم في مواجهة هذا الخارج نفسه الذي بدأ يتنصل منها ويفكر بتغيير قواعد اللعبة للحفاظ على ما تبقى من النظام. إنها لحظة التحول التي طال انتظارها، والتي ستحدد ما إذا كان العراق سيظل رهينة ماضيه، أم سينهض كفاعلٍ جديد في معادلة الشرق الأوسط المتحركة.
الارتداد الإقليمي للتحول العراقي
إن ما يجري في العراق لا يمكن النظر إليه بمعزلٍ عن المشهد الإقليمي الأوسع. فـ تصدّع الشرعية السياسية في بغداد يُنذر بتداعياتٍ ستطال أنظمة مشابهة في المنطقة بُنيت على ذات المعادلة: شرعية دولية مقابل غياب الشرعية الشعبية. فالعراق، بما يمثله من ثقلٍ جغرافي وتاريخي وسياسي، غالباً ما كان مؤشراً استباقياً لما سيحدث في محيطه العربي والإقليمي.
ففي لبنان، يعيش الشارع وضعاً مشابهاً من انعدام الثقة بالقوى الطائفية التي احتكرت السلطة تحت مظلة المحاصصة، ومع تنامي وعي الأجيال الجديدة هناك، تتقاطع الدوافع الشعبية مع الحالة العراقية في رفض الوصاية الخارجية – سواء كانت إيرانية أو غربية – والمطالبة بدولةٍ مدنية ذات سيادة. أما في سوريا، فالتآكل المستمر في شرعية النظام والضغوط الاقتصادية والإنهاك الاجتماعي تُنذر بأنّ النموذج السلطوي لم يعُد قابلاً للاستمرار دون تغييراتٍ جذرية. وفي اليمن، تبدو خريطة الانقسام مرشحة لإعادة التشكيل أيضاً مع تغيّر المزاج الدولي، حيث بدأت القوى الكبرى تراجع دعمها للحروب بالوكالة وتسعى لتسوياتٍ تحفظ مصالحها دون استنزافٍ دائم.
كل ذلك يعني أن الوعي العراقي الجديد لن يبقى محلياً، بل سيتحول إلى موجةٍ فكرية وسياسية عابرة للحدود، تشجع شعوب المنطقة على إعادة النظر في نظمها السياسية القائمة. فالإرادة الشعبية التي تتشكل اليوم في العراق قد تُصبح نقطة ارتكاز لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب والسلطة، وبين الداخل والإرادة الدولية، لتفتح الباب أمام شرقٍ أوسط مختلف في معادلاته وموازينه.
ومن هنا، يدرك الفاعل الدولي أنّ تجاهل التحول العراقي سيقود إلى ارتدادٍ إقليمي يصعب السيطرة عليه، لذلك فإن إعادة ترتيب المشهد في بغداد ليست شأناً محلياً، بل مقدمة لتعديل أوسع في هندسة الشرق الأوسط السياسية.
وهكذا، يبدو أن العراق مرة أخرى يقف في مركز الدائرة، ليس كدولة تبحث عن استقرارها فقط، بل كعاملٍ حاسم في إعادة صياغة مستقبل المنطقة كلها. فحين يستيقظ وعي العراق، تستيقظ المنطقة، وحين يرفض الشعب الخضوع، تبدأ إرادة التغيير بالتحرك على مستوى الإقليم بأكمله.
إرادة التغيير
حين يرفض الشعب الخضوع، وتنهار أقنعة الوصاية، يصبح التغيير حقيقةً لا مفر منها. العراق اليوم يقف عند مفترق الطرق، ليس بين الماضي والمستقبل فحسب، بل بين إعادة صياغة مصير الأمة وإعادة تدوير الفشل. ووعي شعبه الصامد، الذي لم يعد يقبل بالعبث والسيطرة الخارجية، سيكون الشرارة التي تُشعل فجر شرقٍ أوسط جديد، حيث القرار لشعوبه لا لكرسيّات السلطة أو ولاءات الخارج.
يتبع غدا الجزء الثامن والعشرون:”العراق بين التبعية والهوية الوطنية… مفترق طرق حاسم”

