الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟

6


 

الجزء الثامن والعشرون:

 

العراق بين التبعية والهوية الوطنية… مفترق طرق حاسم

 

 

يجد العراق اليوم نفسه في مفترق طرق حاسم ، بين استمرار سياسات التبعية التي أخّرت بناء الدولة، وبين العودة إلى مسار وطني يرتكز على مصالح الشعب ومستقبله. الشعب الذي عانى من فساد النخب السياسية وتبعيتها للمحاور الخارجية لم يعد يملك سوى صبر محدود، بينما القوى السياسية ما زالت تتنقل بين ولاءات متناقضة وأجندات خارجية، غير مدركة أن استمرار هذا النهج يجعلها جزءًا من الأزمة، وليس الحل. فهم هذا الواقع ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل ضرورة استراتيجية لبقاء العراق ووحدته واستقراره.

 

المحاصصة الطائفية.. جذر الأزمة

شكلت المحاصصة الطائفية والمناطقية منذ عام 2003 أحد أهم أسباب تراجع الدولة العراقية. توزيع المناصب على أساس الولاءات المذهبية أو المناطقية لم يولّد عدالة، بل أفرز شبكة واسعة من الفساد، مليشيات مسلحة، ونظامًا سياسيًا هشًا غير قادر على اتخاذ قرارات حاسمة لصالح الوطن. المحاصصة ليست مجرد خطأ إداري، بل أداة لتثبيت الولاءات الخارجية على حساب استقلال القرار الوطني. مثال واقعي: ما حدث في إدارة بعض المحافظات بعد 2003 يظهر كيف أصبحت الموارد تتحرك وفق الولاءات لا بحسب حاجة المواطنين.

 

الطائفية السياسية وتجريمها

الخطوة الثانية التي لا يمكن تجاوزها هي تجريم الطائفية السياسية وفرض نظام قانوني يضمن عدم استغلال الانتماءات المذهبية لأغراض ضيقة. غياب آليات صارمة جعل العملية السياسية رهينة لأجندات خارجية، وأفرغها من روحها الوطنية. تحويل الانتماءات الدينية أو القومية إلى أدوات سياسية يعني استمرار الفشل وانفلات الدولة، بينما بناء نظام يضع الوطن قبل الولاءات الفردية هو السبيل لإعادة الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة.

 

نزع سلاح الفصائل ودمجها في الدولة

وجود الفصائل المسلحة خارج سلطة الدولة يمثل أحد أكبر التحديات. هذه الفصائل، أدوات ضغط داخلية وخارجية، تجعل الدولة عاجزة عن فرض القانون وتكرس الانقسام والفوضى. الحل لا يكون بالمزيد من المفاوضات المؤجلة، بل برنامج واضح لنزع السلاح ودمج الفصائل ضمن القوات النظامية أو برامج مدنية وطنية، مع حماية حقوق الأفراد، ولكن بحزم يعيد للدولة هيبتها ويضع كل القوى تحت سقف القانون. استعارة رمزية: العراق كالسفينة وسط عاصفة، لا يمكنها أن تبحر إلا إذا وضعت كل المجاذيف تحت قيادة واحدة.

 

إصلاح الدستور: استثمار التجربة الماضية

التجربة العراقية أظهرت أن الدستور يحتاج مراجعة جذرية، ليس فقط لتعديل بعض البنود، بل لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والشعب، وحماية مصالح الجميع، وتقوية الرقابة والمساءلة. الإصلاح الدستوري هو مدخل لإخراج العراق من الجمود وفتح الباب أمام نظام سياسي يعمل لصالح الوطن وليس لخدمة أجندات خارجية.

 

الانفتاح العربي والدولي

العراق لا يمكن أن يكون دولة فاعلة بمعزل عن محيطه العربي والدولي. العلاقات الإيجابية مع الجوار العربي، والتفاعل البناء مع المجتمع الدولي، هما الضمان لتحقيق مصالح الشعب، والأمن والاستقرار الإقليمي. السياسة الوطنية ليست الاصطفاف العشوائي أو التبعية للأجنبي، بل القدرة على الموازنة بين المصالح الوطنية والتفاعل الإيجابي مع القوى الكبرى بما يخدم مستقبل العراق.

 

الرؤية المستقبلية: الطريق إلى التصالح الوطني

إذا نجحت هذه الإصلاحات—إنهاء المحاصصة، محاسبة الفاسدين، تجريم الطائفية، نزع سلاح الفصائل، إصلاح الدستور، وتعزيز الانفتاح العربي والدولي—يمكن للعراق أن يتحول من دولة منهكة إلى دولة قوية وموحدة وفاعلة في المنطقة. هذه الإصلاحات ستعيد الثقة بين الشعب والسلطة، وتخلق بيئة سياسية مستقرة تمنع نزيف الدم وتحقق تنمية حقيقية. الشعب العراقي، الذي تعب من الفشل والتبعيات، سيجد نفسه أمام قوى سياسية وطنية تستطيع ترجمة مصالحه إلى سياسات حقيقية، وتعيد للعراق مكانته الحضارية . المستقبل العراقي لا يُبنى بالانتظار، بل بالخطوات العملية والشجاعة في اتخاذ القرارات الوطنية الصعبة. العراق اليوم كالسفينة التي فقدت دفتها؛ على القوى السياسية أن تختار: إما العودة إلى المسار الوطني الحقيقي، أو التخلي عن السلطة وترك الشعب يكتب التاريخ. هذه هي المعادلة النهائية، والفرصة الأخيرة لبناء عراق يحلم به أبناؤه منذ عقود .

 

 

يتبع غدا الجزء التاسع والعشرون:

“زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن – خطوة مهمة في طريق الشرق الأوسط الجديد”

التعليقات معطلة.