الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟

8

 

 

الجزء التاسع والعشرون:

 

زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن – خطوة مهمة في طريق الشرق الأوسط الجديد

 

تُعد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الأميركية واشنطن واحدة من أكثر التحركات السياسية دلالة في المشهد الإقليمي خلال السنوات الأخيرة. فالزيارة تتجاوز بعدها الثنائي بين دمشق وواشنطن لتشكل مؤشراً على تحولٍ تدريجي في مقاربة النظام الدولي تجاه سوريا، وعلى بدء مرحلة جديدة من إعادة هندسة التوازنات في الشرق الأوسط ضمن مفهوم “الشرق الأوسط الجديد”.

أولاً: دلالات التوقيت والسياق الدولي

تأتي الزيارة في توقيتٍ بالغ الحساسية على المستويين الدولي والإقليمي. فعلى الصعيد الدولي، يشهد النظام العالمي تحولاً في أولويات القوى الكبرى نتيجة الحرب في أوكرانيا، والتنافس الأميركي–الصيني المتصاعد في شرق آسيا، وهو ما يدفع واشنطن إلى إعادة توزيع ثقلها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط بهدف إدارة النفوذ لا السيطرة عليه. وفي هذا السياق، تمثل سوريا موقعاً محورياً لإعادة التموضع الأميركي في المنطقة، خصوصاً بعد أن أدركت واشنطن أن سياسة العزل والعقوبات لم تعد تحقق نتائج استراتيجية مستدامة.

أما على المستوى الإقليمي، فإن المنطقة تشهد إعادة تشكيل للتحالفات القائمة، أبرزها محاولات دمج مسارات الأمن العربي المشترك مع مساعي تهدئة الصراع الإيراني–الخليجي، إضافة إلى إعادة توظيف الملف السوري كأداة توازن بين القوى العربية وإيران وتركيا. ومن ثم فإن زيارة الشرع تعكس قبولاً دولياً –ولو مبدئياً– بعودة سوريا إلى طاولة الترتيبات الإقليمية.

ثانياً: التحول في المقاربة السورية

منذ تولي الرئيس أحمد الشرع السلطة، أبدت دمشق تحولاً تدريجياً في خطابها السياسي من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة. فقد تبنّت القيادة الجديدة نهجاً يقوم على البراغماتية السياسية والانفتاح المدروس، مستفيدة من التحولات في البيئة الدولية ومن الإرهاق الإقليمي الناتج عن تعدد الصراعات. وقد سمح هذا النهج بإعادة بناء علاقاتٍ تدريجية مع الدول العربية، خصوصاً الخليجية، وتهيئة الأرضية لحوارٍ مباشر مع واشنطن.

الشرع يدرك أن العودة إلى الفضاء الدولي لا تمر عبر التحالفات المغلقة أو الشعارات الأيديولوجية، بل من خلال صياغة دور وظيفي متوازن يجعل من سوريا شريكاً في الاستقرار لا طرفاً في النزاع. وعليه، فإن زيارته إلى واشنطن تمثل اختباراً لمعادلة جديدة: سوريا المستقلة عن المحاور، المنخرطة في ترتيبات الأمن الإقليمي.

ثالثاً: المصالح الأميركية في سوريا والشرق الأوسط

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن التعامل مع دمشق لم يعد مسألة “ملف حقوقي أو أمني” بقدر ما هو ملف استراتيجي يرتبط بإعادة توازن القوى في الإقليم. تسعى واشنطن إلى تحقيق مجموعة أهداف متوازية، أهمها:

تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان عبر فتح قنوات سياسية بديلة.

احتواء الوجود الروسي في شرق المتوسط من خلال ترتيبات أمنية مرنة تضمن استقرار الحدود السورية–العراقية.

تأمين الممرات الاقتصادية والطاقة ضمن مشاريع الربط الإقليمي بين الخليج وشرق المتوسط.

من هنا، يمكن فهم زيارة الشرع على أنها جزء من اختبار جدوى الانفتاح الأميركي المشروط على دمشق، مقابل دورٍ سوريٍّ محدد في تحقيق توازنات إقليمية تخدم أهداف الاستقرار ومنع التصعيد.

رابعاً: التحديات الإقليمية المحيطة

رغم مؤشرات الانفتاح، تبقى التحديات أمام دمشق وواشنطن كبيرة. فإيران وتركيا، وهما فاعلان رئيسيان في الملف السوري، لن تنظرَا بارتياح إلى أي تقارب سوري–أميركي قد يعيد تموضع دمشق خارج دائرة نفوذهما المباشر. كما أن إسرائيل ستراقب عن كثب مخرجات الزيارة، خصوصاً ما يتعلق بحدود أي تفاهمات أمنية قد تُعيد ضبط قواعد الاشتباك في الجولان أو الجنوب السوري.

وفي المقابل، يمكن أن تستفيد دمشق من حالة التقاطع المؤقت بين مصالح القوى المتنافسة، بحيث توظفها لتعزيز موقعها التفاوضي، دون أن تُغامر بقطع كامل مع تحالفاتها السابقة.

خامساً: آفاق الشرق الأوسط الجديد

إنّ مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” في صيغته الراهنة يختلف جذرياً عن النسخة التي رُوّج لها في التسعينيات. النسخة الجديدة تقوم على شبكة تفاعلات متداخلة لا تهيمن فيها قوة واحدة، بل تقوم على توزيع الأدوار بين قوى إقليمية مركزية (مثل السعودية، ومصر، والعراق، وسوريا) تحت مظلة تفاهمات دولية متعددة الأطراف. وفي هذا السياق، تشكل زيارة الشرع إلى واشنطن نقطة تحول رمزية في إدماج سوريا ضمن معادلة الشرق الأوسط متعدد المحاور، بما يفتح المجال أمام ترتيبات سياسية وأمنية أكثر استقراراً.

 

تؤكد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن أن الشرق الأوسط يدخل فعلاً مرحلة إعادة هندسة شاملة للنظام الإقليمي. فالرهان الدولي لم يعد على إسقاط الأنظمة أو إعادة رسم الخرائط بالقوة، بل على تعديل سلوك الدول وإعادة توظيفها داخل منظومة توازن مصالح مشتركة.

من هذا المنظور، تمثل الزيارة خطوة أولى في مسار طويل لإعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي، وفتح قنوات اتصال جديدة تتيح بناء ترتيبات أمنية واقتصادية أكثر واقعية واستدامة. وربما يمكن القول إنّ الشرق الأوسط الجديد لن يولد من اتفاقٍ واحد، بل من تراكم خطواتٍ كهذه، تُعيد الثقة بين العواصم المتخاصمة وتُرسخ فكرة “الأمن بالمشاركة لا بالمواجهة”.

 

 

يتبع غدا الجزء الثلاثون:

“الشرق الأوسط وصراع النفوذ بين القوى الكبرى”

التعليقات معطلة.