الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟

5

 

الجزء الثلاثون:

 

الشرق الأوسط وصراع النفوذ بين القوى الكبرى

 

يشهد الشرق الأوسط اليوم مرحلة إعادة توزيع شاملة لموازين القوى، تتقاطع فيها مشاريع القوى الدولية والإقليمية في سباقٍ مفتوح على النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي. فبينما تحاول واشنطن ولندن وتل أبيب صياغة “نظام شرق أوسطي جديد” قائم على التفاهمات الأمنية والاقتصادية، تتحرك موسكو وطهران وأنقرة في اتجاهٍ موازٍ للحفاظ على موطئ قدمٍ في هذا النظام، ولو من موقعٍ مغايرٍ أو موازن. النتيجة هي خريطة نفوذ معقدة، لا تُدار بالحروب الكبرى كما في الماضي، بل عبر حروبٍ رمادية وتفاهماتٍ متحركة وتقاطعات مصالح دقيقة.

أولاً: واشنطن ولندن وتل أبيب.. محور إعادة التشكيل

تتصدّر الولايات المتحدة مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، مدعومةً من لندن وتل أبيب. فالاستراتيجية الغربية الجديدة لم تعد تستهدف تغيير الأنظمة بقدر ما تركز على إعادة هندسة البيئة الإقليمية بما يخدم توازن القوى العالمي. تقوم هذه الرؤية على ثلاث ركائز أساسية:

تثبيت إسرائيل كركيزة أمنية مركزية، عبر دمجها تدريجيًا في منظومة الدفاع الإقليمي، وجعلها حلقة وصل تكنولوجية وأمنية بين الغرب والعواصم العربية.

إعادة تأهيل بعض الدول العربية المحورية — كمصر والعراق وسوريا والسعودية — لملء الفراغات التي خلّفها الانكفاء الأميركي العسكري، شريطة أن تبقى ضمن الإطار الغربي الواسع.

تقليص أذرع النفوذ الإيراني والروسي، وضبط الدور التركي ليبقى داخل حدودٍ تسمح بالتوازن ولا تهدد المركز الغربي.

بهذا المعنى، فإن واشنطن ولندن وتل أبيب تعملان على هندسة “شرق أوسط مقيّد التناقضات”: لا تسويات نهائية ولا حروب شاملة، بل إدارة دائمة للأزمات تحت سقف المصالح الغربية.

ثانياً: موسكو وطهران.. معركة الدفاع عن النفوذ

تتحرك روسيا وإيران ضمن معادلةٍ معقدة عنوانها “منع الانكفاء دون التصادم المباشر مع الغرب”. فبالنسبة لموسكو، يشكل الشرق الأوسط ورقة ضغطٍ استراتيجية في مواجهة الناتو، لا سيما بعد عزلة أوكرانيا والعقوبات الأوروبية. لذلك تسعى روسيا إلى الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا وموطئ قدم في ليبيا والسودان، باعتبارها نقاط تماس بحرية وبَرّية مع المصالح الغربية.

أما إيران، فترى في التحولات الراهنة تهديداً مباشراً لبنية نفوذها الإقليمي الممتدة منذ 2003. فالمساعي الغربية لإعادة دمج دمشق في النظام العربي، وتعزيز استقلال القرار العراقي، والتقارب الخليجي–الإسرائيلي، جميعها تقلّص هوامش النفوذ الإيراني التي تشكلت عبر وكلائها في العراق ولبنان واليمن وسوريا. لذلك تتبنى طهران استراتيجية الاحتفاظ بالضغط غير المباشر: استمرار الوجود العسكري المحدود، تحريك الميليشيات عند الحاجة، والمناورة عبر البوابة الاقتصادية الصينية والروسية.

لكن كلا القوتين، موسكو وطهران، تواجهان مأزقًا مشتركًا: محدودية القدرة الاقتصادية مقابل تصاعد الضغوط الدبلوماسية، ما يجعل حضورهما عرضة للتآكل البطيء في ظل التفاهمات الأميركية–البريطانية المتصاعدة.

ثالثاً: أنقرة.. اللاعب المتردد بين الشرق والغرب

تركيا تُدرك أن أي شرق أوسط جديد سيُعاد رسمه من دونها إذا لم تُحسن التموضع مبكرًا. فهي تحاول منذ سنوات الموازنة بين علاقتها مع واشنطن من جهة، وتحالفها التكتيكي مع موسكو وطهران من جهة أخرى. لكن التحولات الأخيرة — من الانفتاح السوري–الأميركي، إلى تحجيم الدور التركي في القوقاز وليبيا ، دفعت أنقرة إلى مراجعة استراتيجيتها.

تسعى أنقرة الآن إلى أن تكون فاعلًا لا غنى عنه في معادلة التوازن الجديدة، من خلال:

تطبيعٍ تدريجي مع دمشق،

وتنسيق أمني مع تل أبيب والقاهرة،

ومناورة اقتصادية مع روسيا والخليج.

ورغم مرونتها، فإن تركيا تخشى أن تؤدي ترتيبات “الشرق الأوسط الجديد” إلى تحديد سقف دائم لدورها الإقليمي، يحصرها في المجال الاقتصادي دون النفوذ السياسي والعسكري الذي سعت إليه منذ 2011.

رابعاً: الصراع على تعريف “الشرق الأوسط الجديد”

ما يجري اليوم ليس صراعًا على الجغرافيا فحسب، بل صراع على المفهوم نفسه. فبينما ترى واشنطن ولندن وتل أبيب الشرق الأوسط الجديد فضاءً من “الاستقرار المنضبط” و”الأمن عبر الشراكات”، تنظر إليه موسكو وطهران على أنه محاولة لإقصائهما من خطوط الإمداد والطاقة والتأثير السياسي. أما أنقرة، فترى فيه تهديدًا لفرصها التاريخية في التحول إلى قوة مركزية تربط آسيا بأوروبا.

هذا الصراع لا يُدار بالعمليات العسكرية المباشرة، بل عبر حروب باردة متوازية:

حروب الطاقة والأنابيب،

سباق الممرات البرية والبحرية،

منافسة النفوذ في العراق وسوريا ولبنان،

والتسابق على إعادة إعمار ما دمّرته الحروب، حيث تتحول “العقود الاقتصادية” إلى أدوات نفوذ سياسي.

خامساً: نحو شرق أوسط توازني لا أحادي

المحصلة الميدانية تشير إلى أن النظام الإقليمي المقبل سيكون توازنيًا لا أحاديًا. فالقوى الكبرى تتجه إلى توزيع الأدوار بدل إقصاء الخصوم، والعواصم العربية تحاول استعادة موقعها كركيزة توازن بين المحاور. سوريا والعراق ومصر والأردن تمثل اليوم الكتلة العربية الوسطى التي يمكن أن تحدد اتجاه موازين القوة إذا استطاعت توحيد مصالحها ضمن رؤية واقعية.

الشرق الأوسط الجديد لن يُدار من عاصمةٍ واحدة، بل من شبكة عواصم مترابطة، تُدار أزماته بالتفاهم أكثر مما تُحسم بالقوة. لكن هذا التوازن يبقى هشًا ما لم تتحول التحالفات الأمنية إلى منظومة مصالح اقتصادية متبادلة تضمن الاستقرار على المدى البعيد .

إن “الشرق الأوسط الجديد” الذي تُصاغ ملامحه اليوم ليس مشروعًا واحدًا بل سلسلة مشاريع متنافسة تُدار بتفاهم الضرورة. واشنطن ولندن وتل أبيب تريد شرقاً أوسط منضبطًا ومتحكمًا بتدفق الطاقة والممرات البحرية، بينما تسعى موسكو وطهران وأنقرة إلى شرقٍ متعدد المراكز يحافظ على هامش المناورة لكل قوة.

وفي قلب هذا الصراع، تبقى الدول العربية بين خيارين: إما أن تكون جزءاً من معادلة التوازن الجديدة كشركاء في القرار، أو أن تبقى ساحات لتصفية الحسابات بالوكالة.

إن إدراك هذه اللحظة التاريخية، والتعامل معها بعقلانية استراتيجية، هو ما سيحسم الجواب على السؤال الجوهري الذي تطرحه هذه السلسلة منذ بدايتها: الشرق الأوسط.. ماذا وإلى أين؟

 

 

يتبع السبت الجزء الواحد والثلاثون: “الولاية بوجه الإمبراطورية: المشروع الفارسي يعود بثوبٍ ديني”

التعليقات معطلة.