الجزء الحادي والثلاثون:
الولاية بوجه الإمبراطورية: المشروع الفارسي يعود بثوبٍ ديني
في الجزء الثلاثين، توقفنا عند ملامح الصراع المحتدم بين القوى الكبرى — واشنطن ولندن وتل أبيب وأنقرة — حول رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد وتحديد موقع كل طرفٍ فيه. غير أن هذا الصراع لم يكن يدور في فراغٍ جيوسياسي، بل في ساحةٍ تموج بمشاريع موازية تتنافس على الإرث والهوية والنفوذ. ومن بين تلك المشاريع، يبرز المشروع الإيراني بوصفه الامتداد الأقدم والأكثر تعقيدًا؛ مشروعٌ يتقن التحوّل من قوميةٍ إمبراطورية إلى ولايةٍ دينية، محتفظًا بجوهره التوسّعي تحت لافتاتٍ مختلفة. وفي هذا الجزء الحادي والثلاثين، نسلّط الضوء على هذا المشروع الذي عاد بثوبٍ عقائدي جديد، محاولًا أن يواجه الإمبراطوريات بقداسةٍ مصطنعة، قبل أن يتهاوى أمام وعيٍ شعبيٍّ بدأ يفكك أسرار “الولاية” ويفضح جوهرها السياسي.
لم يكن سقوط الشاه في طهران عام 1979 نهاية الطموح الفارسي، بل كان ولادةً جديدة له بثوبٍ مختلف. فقد استبدلت فارسُ التاجَ بالعمامة، ورفعت شعار “الولاية” في مواجهة “الإمبراطورية”، لتواصل مشروعها التاريخي في التمدّد، لا بالسيف هذه المرة، بل بالعقيدة والوصاية والتغلغل الناعم داخل الدول والمجتمعات.
لقد أدركت طهران منذ اللحظة الأولى أن تصدير الثورة لم يكن غاية دينية، بل وسيلة سياسية لإعادة إنتاج النفوذ الفارسي تحت غطاءٍ مذهبي. فبينما كانت الشعارات تتحدث عن “نصرة المستضعفين”، كانت الأجهزة تبني ميليشيات، وتؤسس أحزابًا تابعة، وتزرع شبكات ولاءٍ اقتصادي وأمني في العراق ولبنان واليمن وسوريا.
هذا المشروع القائم على فكرة “الهيمنة باسم الله” استثمر هشاشة الواقع العربي وتآكل الثقة بين الشعوب وحكوماتها، فدخل من بوابة المظلومية ليصبح شريكًا في السلطة، ثم مالكًا لها، وأخيرًا وصيًا عليها. وهكذا تحوّل “الوليّ الفقيه” إلى مرجعٍ سياسي فوق الدول، تُدار من طهران ملفات الحرب والسلم في عواصم المنطقة. وبذلك تحوّل خطاب المظلومية إلى أداة تمكين، والمقاومة إلى وسيلة سيطرة.
ومع هذا التحوّل الشعبي، تتبدّل الموازين الإقليمية تدريجيًا. فالعراق، الذي كان حجر الزاوية في المشروع الإيراني، يشهد اليوم وعيًا متناميًا نحو استعادة القرار الوطني. واللبناني الذي صدّق وعود المقاومة، يكتشف أن السلاح الموجّه للعدو صار أداة قمعٍ في الداخل. واليمني الذي خُدع بشعار “الثورة” يرى وطنه ممزقًا بين الفقر والوصاية.
الوعي الجمعي العربي بدأ يقرأ المشهد بعمقٍ أكبر. لم يعد يرى في “الولاية” قداسة، ولا في “الممانعة” بطولة، بل بات يدرك أن ما يجري هو صراع بين من يريد دولةً وطنية سيدة، ومن يسعى إلى ولايةٍ عابرةٍ للحدود تكرّس التبعية لا السيادة.
وفي المقابل، يدرك الغرب وحلفاؤه العرب أن ترك الساحة لإيران يعني تسليم مفاتيح الشرق الأوسط لمشروعٍ عقائدي غير قابل للإصلاح. لذلك تتسارع اليوم التحركات لإعادة رسم المشهد عبر دعم قوى الدولة والمؤسسات، وإنهاء مرحلة الميليشيات والولاءات العابرة.
إنّ المشروع الفارسي بثوبه الديني فقد بريقه، لأن الشعوب اكتشفت أن الدين حين يُستخدم كوسيلةٍ للهيمنة يفقد رسالته، وأن الوصاية مهما تلثّمت بالعمامة ستسقط حين تواجه وعيًا وطنيًا حرًا.
فالولاية التي واجهت الإمبراطورية تحوّلت في النهاية إلى إمبراطوريةٍ أخرى، بلا روحٍ ولا رسالة، لأن القداسة حين تُفرغ من معناها تصبح غطاءً للاستبداد. والتاريخ لا يمنح المجد لمن يستبدل الهيمنة القديمة بقداسةٍ مصطنعة .
يتبع غدا الجزء الثاني والثلاثون : “السلام في الشرق الأوسط يتطلّب إقامة دولة فلسطينية”

