الجزء الثاني والثلاثون:
السلام في الشرق الأوسط يتطلّب إقامة دولة فلسطينية
يتحوّل الشرق الأوسط اليوم إلى مساحة مفتوحة لإعادة هندسة النفوذ، حيث تعمل القوى الدولية واشنطن ولندن وتل أبيب وأنقرة ، على إعادة تشكيل خرائط السلطة بما يتوافق مع مشروعاتها الممتدة منذ عقود. وفي قلب هذا المشهد المضطرب تبرز حقيقة سياسية لم تعد تقبل التأجيل. الاستقرار الإقليمي لن يُنتج سلاماً دائماً ما لم تُمنح فلسطين دولة مستقلة ذات سيادة كاملة. إن أي محاولة لإحلال السلام من دون معالجة الجرح الفلسطيني ليست سوى مشروع هدنة مؤقتة، يتآكل عند أول احتكاك، وينفجر عند أول تغير في ميزان القوى .
أولاً: التحوّل الدولي نحو “إدارة الانفجارات” بدل منعها
منذ العقد الأخير، انتقلت السياسة الدولية في الشرق الأوسط من مبدأ “منع الصراع” إلى مبدأ “ضبط الصراع”، أي الإبقاء على التوترات ضمن مستوى يمكن احتواؤه دون السماح بانفجارات كبرى تهدد المصالح الاستراتيجية. غير أن هذا النموذج، الذي رسمته واشنطن منذ 2011 وتبنّته أوروبا لاحقاً، أثبت قصوره بعد التطورات في غزة وامتدادها إلى الجبهات الإقليمية. إذ أصبح واضحاً أن القضية الفلسطينية ليست تفصيلاً يمكن تجاوزه ضمن معادلة إدارة الأزمات، بل هي مركز الصراع وجذره التاريخي.
ثانياً: لماذا لا يمكن للشرق الأوسط الجديد أن يولد بلا دولة فلسطينية؟
لأن معادلة الأمن الإقليمي فقدت توازنها فإسرائيل تتجه إلى مجتمع أكثر يمينية، بينما الشعوب العربية تعيش حالة احتقان غير مسبوقة. وهذا يجعل استمرار الاحتلال قنبلة زمنية لا يمكن لأي تطبيع أو تحالفات أمنية أن يعالجها.
لأن القوى الدولية نفسها تدرك أن “السلام الاقتصادي” لا يكفي حاولت واشنطن ترويج نموذج الاستقرار القائم على التنمية والتطبيع، متجاهلة الجذر السياسي. ومع صعود أزمات غزة والضفة والقدس، أصبح هذا النموذج خارج الخدمة.
لأن كل مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط يحتاج شرعية شعبية فبدون حل القضية الفلسطينية، تصبح أي ترتيبات أمنية أو اقتصادية مجرد بناء فوق رمال متحركة، لا يحظى بقبول شعوب المنطقة، مهما تمّ تلميعه دبلوماسياً.
ثالثاً: التحوّل الإسرائيلي… عقبة أمام السلام أم محرك لولادته؟
تعيش إسرائيل تحوّلاً داخلياً يمينياً هو الأخطر منذ تأسيسها، ما يجعلها أقرب إلى مشروع “إسرائيل الكبرى الأمنية” لا “إسرائيل القابلة للسلام”. لكن هذا التحول نفسه بدأ يخلق صداماً مع حلفائها التاريخيين، خاصة بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين باتتا تخشيان أن يؤدي استمرار الاحتلال إلى انفلات إقليمي يفتح الباب أمام قوى منافسة مثل روسيا والصين للتمدد في الفراغ . ومن هنا يعود الحديث بقوة داخل هذه العواصم عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية لا كمبادرة أخلاقية، بل كحاجة استراتيجية غربية لحفظ النفوذ.
رابعاً: دور القوى العربية… بين القبول بالترتيبات وبين البحث عن معادلة جديدة
الدول العربية الكبرى الخليج، مصر، الأردن، والعراق أصبحت طرفاً أساسياً في معادلة الأمن الإقليمي. لكنها اليوم تواجه خياراً مصيرياً: القبول باستمرار الاحتلال يعني استمرار النزيف وعدم الاستقرار، بينما الضغط من أجل دولة فلسطينية يُعدّ شرطاً لحماية مصالحها من الارتدادات الشعبية والأمنية. هذا الإدراك يفسر التحولات الهادئة في خطاب العواصم العربية التي لم تعد تتحدث عن “حل الدولتين” كعبارة بروتوكولية، بل كشرط وجودي لحماية الإقليم من الفوضى الممتدة.
خامساً: لماذا يرتبط مشروع إعادة ترتيب المنطقة بالمسار الفلسطيني؟
لأن المناطق التي يجري إعادة هندستها من العراق إلى سوريا ولبنان والخليج جميعها تتغذى على ارتدادات الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي .وكل القوى التي تتنافس اليوم على الشرق الأوسط تعرف أن أي شرق أوسط جديد بلا دولة فلسطينية هو مشروع هشّ، مؤقت، ومهدد بالانهيار . ولهذا تتحرك واشنطن ولندن لربط ترتيبات الإقليم الجديدة من تحجيم النفوذ الإيراني إلى إعادة تعريف الدور الإسرائيلي بوجود إطار سياسي فلسطيني معترف به دولياً.
سادساً: من معادلة 1979 إلى معادلة اليوم… لماذا أصبحت الدولة الفلسطينية ضرورة دولية؟
منذ عام 1979، تشكّلت معادلة إقليمية دقيقة قامت على ثلاث ركائز: إيران كقوة إقليمية مُسيطَر عليها، إسرائيل كذراع أمنية متقدمة، والولايات المتحدة كضامن خارجي للميزان. هذه المعادلة سمحت لواشنطن بإدارة المنطقة بأقل كلفة، ومنحت إسرائيل تفوقاً استراتيجياً، ومنحت إيران مجال نفوذ مضبوطاً داخل حدود مدروسة، فيما تمّ تحييد العرب عن الفعل المباشر.
لكن المشهد تغيّر جذرياً بعد 2003، وبعد انفجار المنطقة في العقد الأخير. فقد خرج النفوذ الإيراني عن السقف الذي رُسم له، واصطدمت الرؤية الإسرائيلية المتطرفة بالمصالح الغربية، فيما وجدت واشنطن نفسها أمام شرق أوسط متفلت يعيد تشكيل نفسه بسرعة لا تناسب أدواتها القديمة.
وهنا تحديداً تعود القضية الفلسطينية إلى مركز اللعبة الدولية . فواشنطن ولندن تدركان أن استمرار الاحتلال يغذي ثلاثة مخاطر رئيسية:
تعاظم النفوذ الإيراني عبر ورقة “المقاومة”، ما يبقي المنطقة مفتوحة للابتزاز السياسي والأمني.
إضعاف إسرائيل أمام نفسها وأمام حلفائها مع انزلاقها إلى يمين ديني يصطدم بالرؤية الغربية.
فتح الباب لقوى غير غربية الصين وروسيا لملء فراغ الشرعية في المنطقة عبر دعم القضية الفلسطينية بطريقة تخسر الغرب ما تبقى من نفوذ معنوي وسياسي.
من هنا يظهر أن إقامة دولة فلسطينية لم تعد مجرد بند تفاوضي، بل تحوّلت إلى مفتاح إعادة ضبط معادلة 1979، ولكن بشكل مختلف هذه المرة:
إيران مقيدة بحدود نفوذ جديدة.
إسرائيل مضطرة للعودة إلى معادلة الاعتراف بدولة فلسطينية حفاظاً على شرعيتها الدولية.
النظام العربي يدخل شريكاً مباشراً في هندسة أمن الإقليم.
هذه ليست رؤية مثالية؛ بل قراءة باردة للكيفية التي تحاول بها واشنطن ولندن وتل أبيب إعادة تركيب الشرق الأوسط بما يمنع انهيار النظام الذي أقيم قبل 45 عاماً .
سلامُ الشرق الأوسط لن يولد من فوهات البنادق ولا من غرف الزجاج البارد… سلامُه يولد من أرضٍ ما زالت تصرخ منذ 1948: أعطوني اسمي… أعطوني دولتي. ومن دون ذلك، ستظل المنطقة تسير في دائرة مغلقة، تعود من الحرب إلى الهدنة، ومن الهدنة إلى الحرب، بينما تبقى فلسطين البوصلة التي يرفض العالم أن ينظر إليها… رغم أنها الطريق الوحيد إلى الاستقرار .
يتبع غدا الجزء الثالث والثلاثون :
“زيارة تُربِك طهران… وتُعيد واشنطن إلى الخليج: محمد بن سلمان يكتب معادلة الردع الجديدة”

