الجزء الثالث:
سوريا… قلب الصراع بين الاستقلال الوطني والانكفاء الإيراني
لم تعد سوريا اليوم تلك الدولة التي عرفها العالم قبل عام 2011. إنها الميدان الذي تتقاطع فوقه خرائط القوى، وتُعاد على أرضه كتابة معادلة الشرق الأوسط الجديد. فبين انسحاب النفوذ الإيراني وتبدل الموازين الدولية، تتحول دمشق من ساحة صراعٍ إلى محور إعادة تشكيل المنطقة، وبداية النهاية للمشروع الإيراني الذي تمدد لعقودٍ تحت غطاء “المقاومة” و”الممانعة”.
منذ اندلاع الأزمة، كانت سوريا التجسيد الأوضح لصراع الإرادات الدولية والإقليمية: روسيا وجدت فيها بوابةً إلى المتوسط ومسرحًا لإثبات الحضور العالمي، فيما رأت إيران فيها جسرًا أيديولوجيًا يربط طهران ببغداد ودمشق وبيروت. لكن ما بُني على الميليشيات والمذهب بدأ يتهاوى حين اصطدمت طهران بحدود الواقع الجديد: شرق أوسط يُعاد بناؤه على أسس المصالح لا العقائد، وعلى موازين القوى لا الأوهام الثورية.
انكفاء إيران وسقوط نفوذها
سقوط نظام بشار الأسد مثّل لحظة فاصلة في المعادلة الإقليمية. فقد انهارت منظومة النفوذ الإيراني التي اعتمدت على اختراق القرار السياسي والعسكري السوري عبر الحرس الثوري وميليشياته المتعددة الجنسيات. ومعه، انكفأت طهران من لاعبٍ أساسي يمسك بخيوط الميدان إلى طرفٍ هامشيٍّ يواجه عزلة متصاعدة. الاستهدافات الإسرائيلية الدقيقة، والتنسيق الروسي الإسرائيلي الصامت، والانفتاح العربي المدروس على دمشق الجديدة، كلّها عوامل دفعت إيران إلى الانكماش داخل مساحاتٍ محدودة، لم تعد قادرة على حماية مشروعها أو تمويله. حتى “حزب الله” فقد عمقه السوري الاستراتيجي، وتقلّص دوره العسكري والسياسي مع تضييق خطوط الإمداد ومراقبة الحدود.
روسيا والعرب… هندسة التوازن الجديد
روسيا، المنهكة في أوكرانيا، تدير اليوم وجودها في سوريا بواقعيةٍ سياسيةٍ جديدة، تميل نحو التنسيق مع القوى العربية لإعادة تثبيت الدولة السورية ضمن منظومةٍ إقليميةٍ أكثر استقرارًا. ومع هذا التوجه، تتراجع طهران من كونها “الضامن” إلى “العبء”، بينما تسعى موسكو ومعها العواصم العربية إلى إعادة بناء نظامٍ سوريٍّ متوازن، يكون جزءًا من الشرق الأوسط الجديد لا أداةً في يد محورٍ آفل.
هذا الانفتاح العربي المشروط على دمشق، لم يكن لإعادة النظام القديم، بل لتهيئة سوريا للعودة إلى محيطها الطبيعي بعد فصلٍ طويل من الارتهان الإيراني . الشرعية التي استعادتْها دمشق ليست مجانية؛ فهي مرتبطة بتقليص الوجود الإيراني، وضبط الميليشيات، ووقف التهريب العابر للحدود الذي كان أحد مصادر تمويل طهران وأذرعها في لبنان والعراق .
من دمشق إلى بغداد… سقوط الامتداد
حين تفقد إيران سوريا، تفقد قلب مشروعها العابر للحدود. فدمشق كانت الممرّ الحيوي لنفوذها نحو المتوسط، وعمقها الاستراتيجي الذي عبرت منه إلى العراق ولبنان. ومع انكماشها هناك، بدأ أثر السقوط يتردد في بغداد . النظام السياسي العراقي الموالي لطهران يجد نفسه اليوم في مواجهة معادلة جديدة: شرق أوسط لا مكان فيه للأذرع الطائفية، بل للدول القادرة على بناء توازنات مستقرة مع محيطها العربي والدولي. ومع تصاعد الحراك الشعبي الرافض للوصاية الإيرانية، وانكفاء الميليشيات بعد فقدانها الغطاء السوري والدعم المالي، تبدو ملامح التغيير في العراق مسألة وقتٍ لا خيار .
نهاية المشروع الأيديولوجي وبداية الدولة
المشروع الإيراني الذي بُني على فكرة “تصدير الثورة” و”الهلال الشيعي” يواجه اليوم لحظة انهياره التاريخي. فالأيديولوجيا التي وُظِّفت لتبرير التوسع، فقدت مبرراتها، بعدما تحولت من “حماية المقاومة” إلى “إدامة النفوذ”. ومع سقوط سوريا كحلقة مركزية في هذا المشروع، تتفكك أذرعه واحدةً تلو الأخرى في لبنان حيث العزلة، في العراق حيث التمرد الشعبي، وفي اليمن حيث الارتداد إلى الداخل .
إنّ التحول الجاري في سوريا ليس مجرد إعادة بناء دولةٍ مدمرة، بل إعلان غير مباشر عن نهاية مرحلة الهيمنة الإيرانية وبداية ولادة الشرق الأوسط الجديد . شرقٍ يقوم على معادلة المصالح العربية والدولية، وتوازن القوى الواقعي، بعيدًا عن الأوهام العقائدية التي أحرقت المنطقة لعقود .
وغدًا، حين تصمت الميليشيات في دمشق وبغداد، سيُسمع في طهران صدى الحقيقة التي حاولت تجاهلها طويلًا: أن زمن التمدد انتهى، وأن الشرق الأوسط يُولد من جديد… من دونها.
(يتبع غدًا: من غزة والعراق تُرسم الخرائط وساحات النفوذ)