الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟ 

5

 

 

(الجزء الرابع والثلاثون)

 

العراق الدموي

 

منذ أكثر من سبعين عاماً، والعراق يعيش داخل دائرة مغلقة من الدم والسياسة، لا تهدأ إلا لتبدأ من جديد. عقود طويلة ضاعت بين انقلاباتٍ عسكرية، وأنظمةٍ متوحشة، وحروبٍ عبثية، وحصارٍ قاتل، واحتلالاتٍ غاشمة، وصراعاتٍ طائفية مزّقت الجسد الوطني. ثم جاءت “ديمقراطية المحاصصة” لتتوج هذا المسار المأساوي، فتتحول السيادة إلى شعارٍ للاستهلاك، والقرار الوطني إلى ورقةٍ تُكتب في عواصم الآخرين.

لماذا كل هذا الخراب؟

السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: لماذا ظل العراق طوال سبعة عقود ساحةً للفوضى والتجارب والدماء؟ هل لأن عبد الكريم قاسم انتزع العراق من الهيمنة البريطانية؟ أم لأن هذا البلد، بحجمه الجغرافي وتكوينه الاجتماعي وثقله التاريخي، يشكّل “القطعة المفقودة” من التاج البريطاني القديم؟

الحقيقة التي يدركها العارفون بالشأن السياسي أنّ بريطانيا لم تغادر العراق يوماً، بل غيّرت أدواتها وأساليبها فحسب. فالعراق بالنسبة لها ليس مجرد دولة، بل الركن الجنوبي لتوازن الإمبراطورية، ومفتاح السيطرة على الممرات المائية والنفط والشرق الأوسط بأسره. ولهذا، لم يكن ما جرى منذ انقلاب 1958 سوى سلسلةٍ من عمليات “إعادة ضبط” للنفوذ البريطاني الأميركي في هذه البقعة الحساسة.

من قاسم إلى صدام… وكلهم أدوات المرحلة

بعد ثورة 1958، التي أنهت النظام الملكي الموالي لبريطانيا، أدركت لندن وواشنطن أنّ العراق خرج عن المسار الذي خُطّ له، فكان لا بدّ من “تصحيح الاتجاه”. جاء انقلاب 1963 بترتيب مشترك بين البريطانيين والأميركيين، وبمباركةٍ ناصرية لتصفية الشيوعيين وإعادة العراق إلى بيت الطاعة الغربي. ثم سُلِّمت السلطة للعارفيين بعد أن أنهى البعثيون المهمة المطلوبة منهم.

عام 1968 عاد البعث بوجهٍ جديد، أكثر صلابةً وتنظيماً، ليبدأ فصلٌ آخر من هندسة المشهد العراقي، تزامن لاحقاً مع صعود الخميني في طهران عام 1979 — في مشهدٍ لم يكن صدفة، بل نتيجة ترتيبات دولية دقيقة لإعادة توزيع الأدوار بين “القطبين المسموح لهما” بإدارة الإقليم: بغداد وطهران، تحت عينٍ غربية لا تنام.

اللعبة البريطانية القديمة الجديدة

من يعرف التاريخ البريطاني يدرك براعة لندن في صناعة الفوضى المنظمة. فهي التي أتقنت تأسيس الحركات الدينية، وتغذية الانقسامات المذهبية، وصناعة المرجعيات التي تُدار بالوكالة. وهي اليوم، في لحظة انشغال العالم بالحروب الكبرى، تُعيد رسم مسار عودتها إلى العراق — الهدية التي فقدتها عام 1958، وتعتبر استعادتها المفتاح الذهبي لإعادة الإمساك بالشرق الأوسط.

ولعلّ ما يجري اليوم من إعادة تموضعٍ سياسي، وظهور ناعمٍ للنفوذ البريطاني في الاقتصاد، والإعلام، والبعثات الدبلوماسية، ليس إلا تمهيداً لعودةٍ محسوبة تُبقي العراق ضمن المدار الغربي، ولكن هذه المرة بثوب “الدولة المدنية” لا “الانتداب العسكري”.

العراق… المرآة الدموية للشرق الأوسط

إن مأساة العراق لم تكن يوماً داخليةً فحسب، بل كانت انعكاساً مباشراً لصراع الإرادات الدولية على أرضه. فمنذ إسقاط الملكية وحتى يومنا هذا، لم يُسمح للعراقيين بامتلاك قرارهم المستقل، لأن العراق ببساطة ليس بلداً عادياً؛ إنه الخزان الذي يُغذي المنطقة، والموقع الذي يربط الشرق بالغرب، والمفتاح الذي من دونه لا تُفتح أبواب الشرق الأوسط ولا تُغلق .

“العراق الدموي” ليس توصيفاً لحالٍ عابر، بل عنوانٌ لتاريخٍ طويلٍ من النزف السياسي المدبّر. وكل ما جرى منذ انقلاب 1958 وحتى اليوم، لم يكن سوى فصولٍ متتابعة من مسرحيةٍ كتب نصّها الكبار في لندن وواشنطن، وأدّاها المحليون بإتقانٍ مؤلم.

لكن التاريخ لا يرحم المكرّر، فكما انتهت فصول الإمبراطوريات السابقة، قد تكون عودة بريطانيا اليوم آخر محاولاتها لإعادة عقارب الشرق الأوسط إلى الوراء… غير أنّ العراق، إن وعى موقعه وقدره، قادرٌ هذه المرة أن يكتب نهايته بيده لا بيد الآخرين.

 

يتبع غدا الجزء الخامس والثلاثون : “تشرين… أيقونة الثورات العراقية وبوابة التغيير البارد”

التعليقات معطلة.